أشكال ألوان| البحر بيضحك ليه؟!

أشكال ألوان| البحر بيضحك ليه؟!

طوال حياتك كنت تحلم بالربيع الذي يجتاحك، ويجعلك تحلم بالحياة المتجددة ليسلخ عنك ثوب الكآبة، ويمنحك الفرح الذي لم تعرفه في حياتك. فمنذ ولادتك وأنت تعيش في ذلك المكان المسيّج بالجدران صاحبة الآذان؛ الظاهرة والمخفية، لتحصي عليك عدد الابتسامات التي تزيد عن المخصصات التي مُنحت لك، عن طريق قسائم ملونة تمنحك الحياة المقننة. تلك الحياة التي تتمنى أن تنتهي بلا صخب، أن تكون أداة موتك شيئاً غير سكين مطبخك، أو ذلك السمّ الذي أتيتَ به لقتل فأرٍ يقاسمك نصيبك من القسائم، التي وقفتَ لأجلها في طابور التوسل والدعاء لصورة أفقدَتها الشمس جبروتها، وبدأت تجفف طغيانها.
وأخيراً، ها هو الربيع يجتاحك ويدوس بقدميه كلّ قذارات الظلام، وتنتشرُ الأزهار الملوّنة في كلّ مكان، حتى روحك التي بدأت تعتادُ لون الكآبة، وترى في ألوان القسائم قوس قزح الحياة التي لا بدّ من شرّها. الآن، بدأت تزهر بالكلمات التي طالما كانت في خزاناتٍ زجاجية تتطلع لها دون لمسها أو نطقها.
في ربيعٍ ما، تكتشفُ أن الفصول كلّها تشترك بسِمةٍ واحدة، أن حضورها هو انقلاب في كل شيء. في ربيعٍ ما، تعرفُ أن ما كنتَ تحلم به هو مجرّد فكرة مجنونة غير قابلة للتطبيق والحياة. في ربيعٍ ما، تكتشفُ أن ألوان القسائم التي كنت تكرهها لا تختلف عن هذا الربيع الملوّن الذي أثقلَ كاهلكَ بكلامٍ أنت تعرفه، أو ربما تلتزمُ به، لكنك تخرج منه رغما ًعنك. فعِقابٌ يلاحقكَ في كل مكان، والثوابُ هناك في الحياة الأخرى التي ستعيشها، ربما بعد موتٍ تتعدّد أسبابه!
ذاك الربيعُ كان بداية النهاية، تنظر إلى الشمال بعنيك الراجفتين من الخوف والحسرة، ودموعك التي تحجب الرؤية عنك، في لحظةٍ فارقة بين هناك الحلم وهناك الحسرة. ترمي خلفك كل شيء؛ أقلامك التي جمعتها عبر سنوات، مكتبتك التي جمعتها من كتب الأرصفة، حتى أنك عندما كنت تشتري كتاباً من مكتبة محترمة كنت تختالُ مرحاً، ترمي خلفك ذكرياتٍ محفورة في قلبك، صداقات نحتها إزميلُ أفكارك. ترمي خلفك وطناً تحبه بقلبٍ متعب، ربما بات بحاجة لإنعاشِ وزرعِ حياة صناعية بلا مشاعر كي ينبض من جديد!
عندما يحين الفراق، يمتدّ ذلك المشهد الذي تحسبه في لحظةٍ هارباً من فيلمٍ سينمائي، لتعرف بعد أن ينتهي أنك كنت تعيشه بكل تفاصيله. تتمنى أن يقول لك المخرج أن المشهد فاشلٌ وأن عليك الإعادة، عندها تفكّر، هل تعيد ذلك المشهد أم تلغيه، فأنت لا تريد أن تعيشه مرة أخرى. لحطة الانسلاخ بين الأجساد التي حضنت بعضها مودّعة في اللقاء الأخير الذي سيمتدّ طويلاً، عيون طفلك الذي لم يفهم لماذا فُرِضَ عليه هذا المشهد هو لا يحب السينما، لكنه يحاول أن يستوعب الفكرة، بعد الانسلاخ وإغلاق الجدار الذي سيفصل بينكما؛ سيستوعب أن لا لقاء قريباً، وأنّ شاشة الكريستال ستكون هي البرزخ الذي ستطل منه على حياتهم.
تصعدُ إلى بطن الحوت الأبيض الذي كلّفته أنتَ بمهمة الابتعاد عن ربيعك الذي كنت تحلم به، وتصرخ فيه بغضبٍ شديد كي يبعدك على ذلك المشهد الذي تتمنى أن تعيده. قد تفكّر في تلك الإعادة برفض هذا المشهد، وتتمنى أن تبقى على كرسي المشاهدين، لترى أفلام أشخاصٍ غيرك، فأنت لا تحب السينما، ولا تحب التمثيل، ولا تحب الابتعاد عن ربيعك!
الموت هو من سيصبح صديقك في رحلةٍ أصبحت مقتنعاً تماماً أنه لا بد ّمنها، تحتمي من غدره بسترة، قد تنقذك لساعاتٍ منه. ربما يجعلك تستسلم من شدّة البرد، أو أنك لا تحب المياه المالحة، فأنت تفكر بشكل جديٍّ في أنّك قد تتحوّل إلى طعام أسماكٍ كنت تأكل أمهاتها بنهمٍ شديد، هل جاء وقت الثأر منك؟!
لكنك تتحدى هذه الأسماك، وتقف على الشاطئ، تسمعُ هدير البحر، تشعرُ أنه يسخر منك ومن أحلامك وربيعك وقسائمك الملوّنة. وذاك المشهد السينمائي، الذي يتجلّى فيه البحر وهو يبتلعُ من سبقوك، يحضّرُ نفسه لابتلاعك، عندها فقط تتصاعد وتيرة نغمات «البحر بيضحك ليه» في مخيّلتك، وتستحضرُ مشهدَ تلك الصبية وهي «نازلة تملى القلل»!

الوسوم

التعليقات

تابعنا على   +