أشكال ألوان| الجمال حين يقتنص الحرية

أشكال ألوان| الجمال حين يقتنص الحرية

«سوريا بدا حرية.. ويا لله ارحل يا بشار»، هذه عبارات القاشوش الآيلة إلى الخلود في الذاكرة السورية.


يرى نيتشه أن العالم لا يجب تبريره إلا بوصفه ظاهرة فنيةً أو جمالية، والفن هو الشكل الميتافيزيقي للعالم، فالعالم يتظاهرُ عبر الفن الذي سيتجاوز الميتافيزيقا، عبر خلق ميتافيزيقا بديلة لإثبات الحياة ونفي العدم، وبهذا المعنى يغدو الفن سبيل البشرية نحو الخلاص.


استطاعَ الحراك السوري أن يمتلك تعبيراته الفنية والثقافية منذ اليوم الأول للثورة، وحتى بعد عودة المظاهرات إلى الشارع السوري، عاد هذا الحراك إلى لعبة التورط الجمالي، تمثّلَ ذلك في الرقص والرسم والخط والأغاني والأفلام التسجيلية الوثائقية والشعر، ليقول للعالم إنني أرى بقلبي.


يذهب إيمانويل فليكوفيسكي في كتابه (البشرية تفقد ذاكرتها) إلى أن الدمار المتكرر قد تركَ آثاره على ذاكرة الشعوب المختلفة حول العالم، على نحوٍ لا يمكن محوه أو نسيانه، وليس ثمة من سبيلٍ إلى ترميم هذه الذاكرة إلا عبر الفن بوصفه إعادة نقشٍ للوجود.


منذ اللحظة الأولى التي أنشد فيها القاشوش، أو التي سجل فيها باسل شحادة أول أفلامه، أو رسم علي فرزات رسومه الناقدة، كان الفن السوري الشوكة الأكثر إيلاماً في حلق النظام. منذ اللحظة الأولى بدت الثورة مدججةً بأدوات التعبير ونفحات الجمال، وبدا النظام مدججاً بأدوات الفتك وشهوات الدمار.


أثبتَ هذا الحراك أن الفن بما هو عملية إعادة تأهيل جمالي، هو أحد الرهانات التي تمتلكها الشعوب وهي تسعى نحو الوجود وكسر شوكة العدم، وبهذا المعنى يمكن القول إن الثورة ليست فقط  حالة غضب أعمى أو ثوران بركان لا يحمل سوى حمم تتدحرج عبر السفح، لقد قدمت درساً مهماً مفاده أنه ليس بالضرورة أن يكون الخراب هو لازمة الثورة، بل يستطيع الفن أن يكون شقيق الثورة أيضاً ومعلمها بآن معاً.


وإلى ذلك فقد أبانَ الحراكُ روحَ الناس التي، وإن دفعتها آليات الاستبداد إلى زوايا العتمة أو السقام، إلا أنها حافظت على أبعادها الجمالية كامنةً في ذاتها، وظلَّت إمكانية استعادتها قائمة عند الضرورة. وبالفعل حال قيام الثورة، تم استرجاعها من زوايا التهميش، لاسيما تلك الأبعاد ذات الطابع الشعبي، وبالمجمل برهنت على كثافة اللحظة الجمالية والفنية المخزونة في الروح.


كل من غنى أو رسم أو عزف للثورة كان ينهل من ذاكرته، ويستثمر في قدراته الفطرية ليقدم أجمل صورة عن مسعىً للتطهر والانعتاق، ورغبةٍ مثابرةٍ في الخلاص من ليلٍ طويل.


شكّل الحراك استجابةً واضحةً لتجديد أشكال التعبير التي امتلكها واحتاجها وراهنَ عليها منذ البدء، وهذا سيشكل بدوره رهاناً آخر أكثر شمولاً يتصل بمجمل البنية الثقافية. رهانٌ على إحداث الخرق في هذه البنية الراكدة، من أجل إعادة إنتاجٍ ثقافيةٍ للمجتمع الذي أبقى على أسئلة المعرفة والحق والخير والحرية والجمال في زواياه المعتمة، وفي أفضل الأحوال كانت مجرد مشاريع فردية على هامش الإنتاج الاجتماعي المعطل أساساً بمفاعيل الاستبداد وقوانينه الصارمة والمقلقة، هكذا ظلت الأسئلة غائبةً عن المجموع، فرديةً مترنحةً تفتقد إلى زخم التعبير الجمعي الذي صار فضاءً مؤمماً.


حركة الشارع أعادت الاعتبار من حيث المبدأ لسؤال عمومي في الثقافة، وعن الثقافة، وأعادت الاعتبار للمثقف كذلك، بوصفه أحد أهم المنتجين لها.


مع التصاعد الجسيم للتضحيات، حضرَ الفن كحمّالٍ شفيفٍ للتعبير، حضرت لافتات كفرنبل زاهية ملونة، علا صوت سميح شقير نقياً شجياً وسط العتمة، وعلا معه صوت1 الشعب ليقول: كم نحن متورطون بالجمال.

الوسوم

التعليقات

تابعنا على   +