أشكال ألوان| الشيخ في تحولاته

أشكال ألوان| الشيخ في تحولاته

تأخرَ عن ساعة نومه المعتادة، القلقُ التهمَ جسده المتعب بسبب أعمال الزراعة. الحقيقة أن القلق هذه المرة كان بسبب كثرة الموتى من أبناء طائفته، فكل يومٍ هناك شباب يذهبون لملاقاة الرفيق الأعلى، وأسرٌ تنام على بكاءٍ وتستيقظ عليه أسرٌ أخرى. تركز تفكيره في أن استمرار هذا الفقد سيؤدي في نهايته إلى اندثار طائفته بالكامل، الطائفة صغيرة العدد التي لا تحتمل جولات فناء، وقد حافظت على نفسها عبر قرون طويلة بألف طريقة للنأي بالنفس والحياد والصمت والتورية والعزلة. الآن لا ناقة لنا ولا جمل في هذه الحرب المجنونة، هكذا حدّث نفسه غير الأمارة بالسوء.


في الأيام الأخيرة، جافاه النوم كثيراً، وصار يرى نفسه في تيهٍ وضياعٍ لم يعتدهما، وهذا لا يليق بشيخٍ سيُسأل يوم القيامة عما فعل حينما قُتل شباب طائفته. وما يعقّد ارتباكه هذا أنّ كهنة السلطان يتابعون صلواتهم وكأنّ ما يحدث في بلادٍ لا تعنيهم، وكأن القتلى ليسوا من خلق الله. خالفهم الرأي، فكان السؤال الداخلي: كيف نواجه الأبالسة هؤلاء، الذين ينفذون ما يقوله السلطان وينتفعون منه كثيراً ولكن كانتفاع الكلب من بقايا العظام. هو يعي ألاعيبهم وتسخيرهم للنص الديني جيداً، فأكمل أسئلته قائلاً: إن خرجنا عن الطاعة ألن يجعلوا منّا مارقين وربما كفرة. ولكن وبخلاف هؤلاء فما شغله كثيراً أنّ أعداداً غفيرة من الناس يخضعون كعبيدٍ للأبالسة، ولا يهتمون بأسئلته، عدا أنّ عائلته صغيرة العدد، وأنصاره قلّة، وأعداءه لا يتوقف المدّد عنهم.


هذا التفكير منعه من ساعات نومه المعتادة، ولكن جسده المنهك أدخله عالم الصمت قبل شروق الشمس بقليل، وحينما رأت زوجته أحواله المتغيرة هذه، وساعات نومه المتقطعة واستيقاظه الفجائي وصراخه ليلاً وتعرقه المستجد، راحت تتركه يتأخر في نومه قليلاً ما دام يغلبه في ساعات الصباح الأولى، فتُخرِجُ أولادها بعيداً عن المنزل وتجلس أمام الباب كي تمنع كُل جلبةٍ قد توقظ زوجها المرهق من شدّة القلق.


بدا الأمر قابضاً على عنقه: فاستمرارُ الموت دون موقفٍ منّه، سيعني أنّه يخون رسالة الدين بالحفاظ على الرعية والعرض والأرض، وقد يقود ذلك طائفته إلى مصيرٍ شبيهٍ بمصير الإيزيدين في العراق، وربما بمصير شعوبٍ كثيرة أفنيت من قبل. إذن لا بد من العمل. فما العمل؟ وضحك في سره، فقد تذكر عنوان كتاب لينين، حينما أعطاه إياه صديقٌ له في قريته راغباً «بمركسته»، ولكنه قاده فوراً إلى التشدّد الديني.


دعا أصدقاءه وبعض رجال الدين المقربين منه، وجال معهم بنقاشات مطولة، واستقر الرأي على ضرورة حماية الطائفة وإلا فالهلاك قادم. وتبيّن أنّ القضية معقّدة، وهناك العسس وهناك ألف تعقيد وتعقيد. لم يأت المساء وإلا وقد هدَّت جسده كثرة التفكير والنقاش، فنام كما وقته المعتاد هذه المرّة. في الصباحِ والأشهرِ اللاحقة بدأ العمل، فاتصل بأبناء طائفته في البلاد المجاورة ودعموا خطوته تلك، ولكن بعضهم قال لا بد من المشاركة مع بقية سكان البلاد بمقارعة السلطان، وبعضهم قال أنّ عليه الحياد، وهذا ما لاقى هوىً في سريرته فاستقر عليه.


تعاظم شأنه هذا، أثار الذعر لدى فقهاء السلطان وشيوخه، فخافوه وراحوا يمكرون له. فهم وقد خبرتهم السنون والطاعة وإحناء الرأس وتقبيل اليد والدعوة للسلطان، رأوا أن من الخطأ تجاهل قوته، وأن المجاهرة برفضه وتأليب الناس علانية عليه قد تعني معارضة أصلب من الرعية لهم، وربما قلب المِجَّن عليهم وعلى سيد بقائهم.


شعر الشيخ بقوته تتعاظم، ولكن المخاطر أيضاً تحيط بمدينته من كل حدب وصوب، فهناك مجانين العقيدة، وهم كثر ومتنوعون ولكنهم متفقون في اعتبار طائفته خارجة عن الدين، ولا بد أن تعود إليه وإلا فإن القتل بأنواعه سيكون مصيرهم بتهمة الردة والكفر وسواه. السلطان كذلك يراقبه جيداً ورجاله ينشرون الإشاعات المغرضة بحقه، والعائلات الكبيرة لا تتركه وشأنه، وطبعاً لن تواليه ولن ترفع له بيارقها أو أعلامها، وهناك السياسيون الذين لا يرون في محافظته إلا تخاذلاً وجبناً، وأن كرامتهم مفقودة ما لم يُشهر سلاحه بوجه السلطان. فقط هناك رجالٌ معادنهم صلبة ويرفضون كل تخاذل وتبعية ولكنهم لا يناصرونه في طائفيته، ويريدون له أن يصبح شبيهاً بهم، أي يريدون خروجه من عباءته ولا يفهمون أنّه شيخٌ ويرفض الأبالسة ويرفض كذلك السلطان.


الشيخ يعرف جيداً أن لا كرامة لنبيٍ في بلاده، ولكنّ الحفاظ على الرعية هو من أصول الإيمان في الدين. العالم رآه أيضاً ممثلاً لمدينته تلك، وهناك من رآه أيضاً من مجانين العقيدة. ولكن بتوسع حركته كثيراً، راح سلطان القتل يرسل له وكلاءَه المحليين منذراً إياه بالفناء. إذن كان يعلم بمقتله ولكن القدر لا بد أن يراه الجميع.


رغم قناعته بالقَدَر فالشيخ لم يستكِن للمتجبرِ، وكان يرد على الأبالسة أن على سلطانكم أن يُغير من أفعاله وإلا فالقَدَر لن يوفره كذلك، وأما الروح فهي ملك الذي أنزلها ووضعها في الصدر. الشيخ ليس أعمىً ويرى جيداً أحوال البلاد وتحولاتها، ولكن حساباته ليست دقيقة في بعض الأوقات وربما هي حسابات القَدَر.


في إحدى الصباحات استفاق مُتوعكاً ومُنهكاً وكان قد تعارك مع عزرائيل طيلة الليل، وشَعر بروحه تغادره لبعض الوقت. لم يشعر بالسعادة إزاء هذا الحلم المقيتت، وأراد أن يرى رعيته ويغيّر هواء رئتيه. خرج مع بعض أتباعه وراح يزور القرى والبلدات الكبيرة، ويجلس ممازحاً الكهول ويشدُّ على أيدي الشباب الرافضين لقذفهم في تهلكة الموت، ويعطي الأطفال قليلاً من النقود، ويقوي من صبر النساء ببعض الكلمات الطيبة على فقدان الأحبة، ويتلقى دعواتهم لنجاته من الموت.


السلطان كان يعرف طريق راحته الجبلي؛ فعيونه مبثوثة حتى في رجال الشيخ، فجهز له موته من قبل. وحينما مرّ بذاك الطريق وهو يتجه لزيارةِ شيخٍ صوفيٍّ ليستقي منه العزيمة وقد اتخذ من الجبل والبعد عن الأبالسة والبشر مكاناً لإقامته الدائمة، انفجرت السيارة التي تقله، وقِيل إن عاصفة هوجاء ملأت المكان لحظة موته، وربما هي روحه المفعمة بالتقوى، وربما هي رياح مركبة عزرائيل الآتية لأخذ الروح التي أستودعها الله لبعض الوقت في جسده.


بكت الروح شيخها وهي تنظر إلى أشلاء مبعثرةٍ في ذلك المكان، فقد كانت سعيدة بهذا الجسد الذي صانها ولم يلوّثها بالنفاق والدجل والمتع الرخيصة وملذات الجسد. وراحت تتأمل: فهل سيتمكن بقية الرعية من إكمال ما قام به هذا الجسد، وتتفادى طائفته الاندثار؟!


في ذكرى الاستقلال، تضحك روحه مجدداً؛ فالرعية تكلمت قبل ظهور الشيخ نفسه، ولم تتكلم بسببه فقط، وها هي تتكلم، وتصل صرخاتها أرجاء المعمورة بأكملها.

الوسوم

التعليقات

تابعنا على   +