أشكال ألوان| ما زال المكان في مكانه

أشكال ألوان| ما زال المكان في مكانه

هناك معركةٌ أخرى كانت تُدار في الظلّ، ما الذي ننتظره هناك. على موقف الباص كان كل شيءٍ في مكانه، الرصيف هو هو، والحديد المطلي باللون الأخضر التعيس، وبقايا من شجر الدفلة التي كانت عصيةً على الموت وأرهقها الغبارُ وانتظارُ الأطفال.


بالقرب من الجامع الذي كان قد بُني حديثاً ولم يكتمل بعد، كانت نصف مئذنةٍ في مكانها أيضاً، ربما كانت تحلم بالتسلق كنبتة الياسمين التي ملأت جدران بيت أم أحمد القريب أيضاً، الياسمينة كانت قد توقفت عن التسلق واستدارت لتحضن نفسها، يقيناً تعلم أن عمرها قصير، وأن الفقراء يولدون أحياءَ بالمصادفة.


بائع الاكسبريس أبو بكري نسي أن يغلق باب دكانه، كان كل شيءٍ على حاله، الماكينة ذات الرأس الواحد وعلبة القهوة. السكر فقط كان قد تحرر في أرجاء المكان لعل سرباً من النمل الذي مازال هناك ينقله مصادفةً لمؤونة الشتاء الطويل.


الإسفلتُ كان على حاله أيضاً، ولكنه قد تجاوز عمر الطفولة، ملأته الثقوب والحفر واستبدل شعره باللون الأبيض، تعشّقَ الغبار في وجهه فبدا كهلاً هذه المرة.


جارتنا أم طارق التي زارها اثنان من الملائكة ذات شتاء، وهي تعاني الفشل الكلوي، حين خرجت إلى السطح تدعو الله فأجابها، واستيقظت صباحاً مستبدلةً غطاء رأسها الأحمر بنقابٍ لا يُظهر إلا جمال أهدابها الطويلة، وصارَ بيتها مزاراً لأصحاب الحاجات والمشايخ، ولي أنا حين أريد أن أتغزل بعينين جميلتين.


درج البناية كان قد تهدم جزءٌ منه أيضاً، «لا وقت لإصلاحه» قلتُ وأنا أقفزُ فوق كومة من الحجارة المهدمة لأصعد حتى الطابق الرابع. كل شيءٍ كان في مكانه، بيتنا في مكانه، البابُ فقط كان قد فقدَ إحدى ذراعيه وبات مشرعاً للريح، الغرفة التي دخلتها بعد أن وعدت نفسي منذ مات أبي أن أتركَ كل شيء فيها على حاله، وأن أتجنب عن الدخول إليها، وغرفتي الصغيرة المقابلة للباب تماماً، وغرفة أمي التي تقاسمت وحدتها بعد انتهاء «واو الجماعة» من الالتصاق بنا من جديد.


القرارُ بدخول غرفة والدي كان أصعب قرارٍ اتخذته على عجل، كانت الغرفة فارغةً وكأن الصدى أخذ عليَّ المكان، وضعَ عدته ونثر بخوره ونبرات صوته تتقد وهو يرمي إليها الرمال، والمكانُ يعج بهواءٍ كثيف. فراشه ما زال ممدداً على الأرض، ونظارته وكيس التبغ «كابتن بلاك» الأبيض، ومشرب التبغ الخشبي، والنافذة الوحيدة المطلة على الطريق.


قلت: «هل يسمحُ كل أسبوع لمصفف الشعر الوحيد الباقي في مدينتنا أن يطرف ضوأه، ويصبغَ بعض بياض شعره بلونٍ داكنٍ، ويذهب إلى موعده في مقهى المدينة الوحيدة ويطلب فنجاناً من القهوة ويتلهى برقعة الشطرنج أمامه، يحمل جندياً من أصابعه ويبدأ بارتكاب حماقة اللعب وحيداً.


الشرفة التي تطل على غرفتي القديمة، حيث كانت ابنة الجيران ترسل إشاراتها نحوي ونعتمدُ على لغةٍ جديدة ظناً منا أن المكان لنا وحدنا وقتها، ما زالت هي الأخرى في مكانها. فقط الزجاج الأخضر الذي كانت تطل منه كان قد ترك مكانه، ليسمح لي بحرية النظر إليها.


خرجتُ بسرعة كيلا أزعجَ الموت، نسيتُ أن أتفقد الغرف الباقية، على الهاتف كانت أمي تسألني بصوتٍ حنون: «اطمنت على البيت، رايح شي، مكسر شي»، عشرات الكلمات والأسئلة التي اخترقت سمعي دون أن أفهمها.


أمي: «ما زال المكان في مكانه».

الوسوم

التعليقات

تابعنا على   +