أشكال ألوان| حين تُقتَل الليرة

أشكال ألوان| حين تُقتَل الليرة

اشتريتُ الأسبوعَ الفائت خمسة أنواعٍ مختلفة من السجائر، في محاولةٍ يائسة للبحث عن نوعٍ جيدٍ بسعرٍ رخيص، وقد أصبحت رئتاي حقل تجاربٍ لسجائر لا نعلم شيئاَ عن مصدرها ومحتواها، قبل التوصل إلى تدخين تبغٍ رديء أيضاً ومجهول الهوية، ولكنه أقل سوءاً من غيره وسعره 200 ليرة، فيما انتقلَ عددٌ من الأصدقاء إلى تدخين التبغ البلدي الرخيص ذي الطعم اللاذع، بعد انعدام قدرتهم الشرائية.


معاناةٌ كبيرة نواجهها كل يوم منذ حُرمنا من طعم التبغ الجيد، وأصبح حلم تدخينه أمراً محالاً بعد أن حلّقت أسعاره إلى أرقامٍ خيالية، فوصل سعر سجائر الـwinston إلى حوالي 900 ليرة والـGitanes إلى 700 ليرة، بينما غابت أنواعٌ كثيرة عن السوق بعد أن انعدم الطلب عليها.


في البقاليات والمحال التجارية ستسمعُ دائماً تأفف الناس المذهولين والمتعبين من فوضى الأسعار التي ترتفع باضطراد أمام تدهور الليرة، سترى أغلفةَ السلع قد تحولت إلى خارطة أسعار عُدلت بجرة قلم سعراً تلو آخر، فحين يسمع البائع بارتفاع الدولار يشطب السعر القديم ويضع سعراً جديداً يناسب أرباحه. بالمقابل لجأ كثيرٌ من تجار الأزمات إلى احتكار السلع بانتظار ارتفاع الدولار المتصاعد من أجل تحقيق أرباح مضاعفة، والضحية دائماً هم المواطنون المعدمون الذين يشترون حوائجهم بشقِّ الأنفس، ويقطعون مسافاتٍ طويلة للبحث عن أسعار تناسب فقرهم، وينتظرون حلول الليل ليشتروا مخلفات الخضار التالفة بأسعارٍ رخيصة، ويقفون ساعات أمام الأفران ليوفروا 40 ليرة من سعر ربطة الخبز، كما استغنوا عن شراء السلع الكمالية والترفيهية. لقد اضطر كثيرٌ من الفقراء وخاصة النازحين منهم إلى بيع السلل الغذائية والأدوية والفرش والبطانيات التي تأتيهم كمعونات من المنظمات الانسانية ليشتروا بثمنها حاجات أخرى، وتحول قسم كبير منهم إلى متسولين يجوبون الشوارع مع أطفالهم ليقتاتوا على فتات العابرين، واضطر كثيرون للبحث في حاويات القمامة عن مواد يمكن بيعها كالبلاستيك والزجاج، وأجبروا أطفالهم وفتياتهم على ترك المدرسة ليكونوا عوناً لهم في التصدي للفقر والجوع.


معظم أفراد الشعب السوري كانوا يعيشون تحت خط الفقر، حتى حين كانت الليرة السورية بأفضل حالاتها. اليوم ومع ارتفاع سعر صرف الدولار إلى ما يفوق الـ500 ليرة، يزداد الوضع سوءاً وقهراً، ما يجعل المواطن يحتالُ على الحياة ليواصل العيش. فوفقاً لمعايير الفقر العالمية، تحتاج الأسرة السورية المتوسطة (5 أشخاص) إلى 4750 ليرة يومياً، أي حوالي 145 ألف ليرة شهرياً كحد أدنى لتعيش على خط الفقر العالمي، حيث حُدد خط الفقر بـ1,9 دولار للفرد في اليوم الواحد، أي ما يقارب ألف ليرة سورية، بينما تعيش كثيرُ من العائلات بدخل شهري لا يتجاوز الثلاثين ألفاً، ولازال راتب الموظف يتراوح بين 20 و 35 ألفاً، وهو راتب لا يكاد يكفي لاستئجار منزل، لذا ستجد ثلاث عائلات من النازحين يقطنون في شقة واحدة، ليتقاسموا تكاليف استئجارها.


 في الحروب، يعتاش تجار الموت على قوت الشعب ويمصّون دمه. لقد تعسكرت  مظاهر الحياة في سورية، ولم ينج الاقتصاد من هذه العسكرة، فأدوات الحرب دمرت اقتصاد الشعب، وأذرعها نهبت مقدرات البلاد، والحواجز أسهمت في رفع أسعار السلع، لأنها تصادر كثيراً منها وتجبر التجار على دفع أتاوات لتعبر بضاعتهم، مما يضطرهم إلى رفع سعرها ليعوضوا خسائرهم. لقد أجبرت مافيات الحروب كثيراً من الناس على الانخراط في صفوفها، بعد أن نهبت قوتهم ومصادر رزقهم وأعدمت سبل العيش، لذا اضطر كثيرٌ من معدمي الحال للانضمام إلى هذه المافيات والتحول من ضحايا إلى جلادين، في بلادٍ تحولت إلى سوق للحرب، يجر البشر والاقتصاد والحياة إلى ميادينه القذرة ليتاجر بهم ويلقيهم إلى التهلكة.

الوسوم

التعليقات

تابعنا على   +