أشكال ألوان| الصوت نسب الحرية، وسلاح الحصول عليها

أشكال ألوان| الصوت نسب الحرية، وسلاح الحصول عليها

كان هذا الكون، في كينونته الأولى سجناً رحباً، عرمرم الظلمات، تنقصه مفردة واحدة، كبيرة كبر اللاموصوف، غريبة كذكريات شاردة لم تعرف طريقها إلى أيّ نهجِ شوقٍ بعد، إنها نسب الوجود المحدود لنور الإلهية، دليل غريزة العشوائية المركبة تنظيماً معقداً.


الحرية: إنها الوصف المنطوق فيما بعد، الدالة على كتلة الفراغ المتناسق للشهوات الطبيعية، أدرك الرب ذلك فنثر الخيال، ليكون عالم الانطلاق اللامحدود لنا، والمحدود بالنسبة إليه،عالم ظلمات ثانٍ، ولكننا نكون فيه راكبي السرج وممسكي الرسن، نضيء بعض كهوفه بعبثنا وشغفنا. ولكن الرب أراد أن يتمَّ هبته للكائنات ذوات الغريزة المحضة-الحيوانات، لذلك ابتدع الصوت ليكون كمال نسج الكون في معرفته طرق ومنعطفات روحه. ومن تلك الآنية ارتبطت الحرية بالصوت والصوت بالحرية، رفيقا درب، تعلن الكائنات عن طريقهما قوتها، وعبودية ستظل رهن الظل الصامت.


الصوت الكائن، الصوت السارح في جميع الأنحاء والتخوم المكانية والزمنية. الصوت المحبر الأحرف، الذي أصبح امتداد أصوات الصدور في براري السطور البيضاء، الصوت الضوئي-الإلكتروني، الصوت المارد، يخرج من الأجواف المظلمة لينطلق عبر الأثير غير المعلن وصفه، لا يفنى بل يتردد ويتشعب إلى أن يصل إلى كينونته الأساس ونسبه، هكذا يقصُّ علينا أئمّة العلم رواية الصوت وأخبار نسبه.


الزنزانات الموحلة بالبؤس، والغارقة في الطغيان، لا تكون بالضرورة تلك التي تقيد الأرساغ أو المفاصل الحركية. تكميم الفم وعقد اللسان هي السجون الأعظم، وكما وردنا من مقتفي آثار التاريخ، أنه في غابرٍ ليس سحيقاً في الزمن، كانت عقوبة قطع اللسان قصاصاً ينجح فيه الطاغية بسلب حرية المرء. السجن الأول للإنسان يكون الرحم الذي سيولده، يخرج منه الإنسان بقوة واندفاعٍ غير محسوب، يعلن عن حريته، للهواء، بصرخات استجداء ذي شفقةٍ لغبار الحياة، وعندها تبدأ مسيرة الوالدين في نحت وصقل خطاب حرية الطفل، لتكون واضحة، صريحة في مطالبها، ولكن هذه المسيرة لا تكتمل بعد، حتى تبدأ الرحلة العكسية والرجوع إلى الصمت، باستخدام عصيّ الأصابع التي تمدد واقفة أمام الشفتين، وهنا يبدأ مشوار الألف زنزانة بأصبع واحدة ممدودة على الفم، وبعدها تأتي الجدران الكاتمة للصوت، والتي صنعها البشر لمنع صوت الإنسان عن الوصول إلى الله في المعتقلات، ومشوار الألف معتقل ينتهي بمجتمع ووطن شيد في وجه أبنائه صروحاً للصمت وجدراناً من الكظم تنفيه إلى حريته المحدودة –الخيال- بنسب اكتمالها المنقوص للحرية في الصراخ.


هذا الكلام المبرمج في اللاوعي، الذي سبب في دفع الحشود العرمرم من الناس لتبدأ مطلبها بالحرية، بالصوت، إنه الصوت المقدس دليل الحرية المقدسة، سليل نسب الأسلحة في الدفاع عن رهان القوة، الصوت القوة، الحرية القوية، البيان الذي تتصدر به أرهاطُ الشعوب جبينَ الشوارع والميادين، تعلن على هزته وصداه أنها تملك حناجر من نحاس موصدة بقيود من فخار، تنكسر فور الضغط على زناد المساومة في كبريائها. وهكذا بدأت فكرة القمع والحروب، التي كانت بدايةً بصوت حديد سيفٍ وصهيل حصان، حال ما استبدلوها بدوي رصاصة، وانفجار قنبلة، ليتمكنوا من استيعاب صوت الحشود المتزايد، لذلك نشاهد المخترعين والسفاحين يتراكضون خلف الأسلحة الأشد صوتاً، لا الأشد فتكاً. ذلك كله ينطوي تحت إبط سيرة الحيوات في تحديد نسلها إلى المرج السارح للغريزة الأم، الحرية، ومهما أشتد صوت القنابل وطلقات الرصاص لن تستطيع إخماد صوت الحناجر في ترديد هتافها بكافة الأصوات والصرخات، المطلي بالقار خوفاً عليه من رطوبة كلأ الأيام، ألا وهو «الشعب يريد حريةً»، تصريح الأجداد الموسوم على الأحجار والجلود بالدم، التصريح الواضح المكتمل المردد عبر السنين العجاف لتاريخ نسل البشر، التصريح المخيف للطغاة يجترونه على مضض كلما قامت شعوبهم بتعبئة بيت نار حناجرها بالهواء، لتفرّغَ عيارات صوتية في أثير غطرستهم واستبدادهم.

الوسوم

التعليقات

تابعنا على   +