أشكال ألوان| يشمتون بدمشقَ، وهم أهلها!

أشكال ألوان| يشمتون بدمشقَ، وهم أهلها!

يتجنب أهل الداخل، المُتأففون المتُعبون، تفنيد رواية المعارضة التي  في الخارج، حول أن كل من بقي في سوريا هو موالٍ، أي يستحق كل أنواع الإهانات والإفقار والظلم والموت، فالباقون برأيها يعطون النظام ذرائع لقوله أنّه يمثل السوريين. يتجنبون ذلك لأن من أصبح لاجئاً أو مُهجراً، ولو بحياة رغيدة، يبقى سورياً، ومن حقه أن يتكلم كما يشاء. مع ذلك يشعرون بألمٍ داخلي، مصدره الخفة التي لا تُحتَمل إزاء معاناة الناس، نحو مصير بلد ننتمي إليه، في إلصاق التهم على المختلف، على الصامت، على المنزوي، على الذي  يريد السكينة والاستقرار والهدوء، بل وعلى من والى النظام ذاته؛ فهؤلاء لديهم أسبابهم، ولم يستطع من عادى النظام أخذهم لدائرته و«تثويرهم». لن نتحدث طويلاً عن التنميط البائس، والطائفي (أو القومي) بامتياز، والذي يركن لرواية غاية في السذاجة، النظام يمثل الأقليات وهي داعمة له، والثورة تمثل الطائفة السنية، وأن كل من ينتمي إليها، ولو كان تحت سلطة النظام أو في جيشه أو أمنه، لا بد أن يصحو ضميره، وربما لا شعوره الديني السني، ويلتحق بالركب.


الباقون داخل البلاد، يشعرون أن عليهم أن يكونوا حذرين تجاه من أصبح خارجها، فلا يكتبون كلمة، أو بوستاً فيسبوكياً أو نصاً يمكن أن يُشعر المهجرين أنهم أصبحوا من أهل الخارج. البعد الأخلاقي يستدعي ذلك، ففي قادم الأيام سيعود السوريون لسوريتهم أيضاً، ولا بد من صناعة المشتركات السورية.


ورغم الفقرة السابقة نقول: إن عقل المثقف السوري أصابته لوثة كراهية للآخر، فمن بالداخل يقول لمن بالخارج: أنتم لا تمثلون السوريين، ومن بالخارج، يقولون لمن بالداخل أنتم موالون. الأمر عينه يقال ممن كانوا تحت سلطة النظام أو سلطة القوى الخارجة عنه. عقل المثقف هذا يعيش مأزقاً كبيراً، فلا ينشغل بالمشتركات بين السوريين، ولا تسمح له الفرص بذلك أيضاً؛ النظام هو أساس الكارثة، فبدءاً منه تعمقت الكراهية والتشظي والتذرر، ولم يستطع المثقف أن يكون حجارة الهيكل.


المثقف، إما أن ينحاز لكل الناس، ويرى مشكلاتهم، وأسباب اتخاذهم مواقف معينة، ويتبحر في الأمر بشكل موضوعي، وإما أن يتحول إلى كاهن وداعية ويسوق قطيعاً من الخراف، يكفر ويدخل الناس إلى الجنة، أو إلى جهنم وبئس المصير. هذا عمل دعاة وقضاة شرعيين نصوصيين وظل الله على الأرض. هذا العقل حافظٌ بامتياز للنصوص، وهو عقل قديم، ديني بامتياز، وربما طول عمر الاستبداد، وشعور المثقف بالقلة والدونية مقارنةً برجال السلطة، وكبتُ حريته وإبداعاته جعل تفكيره منغلقاً؛ وحالما سمحت الظروف، الظروف التي أنتجها الشعب بثورته بدءاً من 2011، راح يحاول التسلط عليها، والادعاء أنه لطالما نَظّرَ للحرية وللكرامة، وبالتالي على الشعب الذي ثار أن يطيعه. في هذا نجد الأحكام القطعية عن الشعب، وعن الصح والخطأ في ثورته وعن مشكلاتها. ليس الخطأ والمشكلات التي تعاني منها الثورة فعلاً، بل ما رآها المثقف أنها كذلك.


الحوار المتشنج في سوريا إزاء الطائفية والأقليات والأكثرية الدينية والكرد والعرب والمدينة والريف والعلاقة مع الخارج، والحوار بين المثقفين والسياسيين وبين المعارضين والموالين، وسرديات المظلوميات اللامتناهية؛ كلها عناصر توضح أن خيوط التواصل الإنساني والسلم الأهلي وبعدها الاختلاف، لا وجود لها في دنيانا؛ فهناك قطيعة وتكفير وكراهية متبادلة، ورغبة في التسلط والتذاكي. تكاد هذه القصص أن تقضي على فسحة الحرية والكرامة التي أنتجها الشعب بثورته وكل ما حصل له بسببها.


عصرونية دمشق احترق منها أكثر من مائة محل، ويعتاش منها مئات العائلات، وتقدم بضائعها للآلاف من السوريين، وأصحابها من كل الطوائف. بدل التضامن مع أهلها، وقد فعل ذلك كثر، فإن أصوات الكراهية انطلقت تتشفى وتشمت بمالكيها وبأهل دمشق، وبأنهم يستحقون؟! فهم لم يثوروا!


ربما هناك فعلاً مخططٌ لتغييرٍ ديموغرافي يحل بموجبه شيعة «متأيرنون» بدلاً من مالكيها الأصليين، وقد تكون سياسة إيرانية للسيطرة على قلب دمشق القديمة؛ ربما بسبب هذا التحليل المفترض تعاطف كثر مع ما حدث. التعاطف هنا لم ينطلق من الضائقة التي ستحل بالمالكين بل بسبب المخطط ذاك. هنا الطامة الكبرى، وهنا الانزياح من الخوف على بلد بأكمله إلى التفكير الطائفي بكل حادثة صغيرة أو كبيرة تحل بهذا البلد المنكوب بالنظام أولاً، وبالمعارضة ثانياً، وبكثير من المثقفين «الطائفيين» ثالثاً.


لا يَشمتُ عاقلٌ في بلاده، فقط من تتملكه روح الثأر والحقيقة المطلقة، والرغبة في اجتثاث الآخر والتشفي. النظام فعل ما لم يفعله نيرون بروما، ولكن ليس هذا بيت القصيد؛ بيت القصيد، أن توضع المسائل بتطابق ما مع الوقائع؛ أي أن المعارضة بكل تنويعاتها بما فيها المثقفين فشلوا، بتشكيل وعي مجتمعي متقبل للآخر ورافض لاستمرار الحرب ولاعتبار سوريا بلداً للجميع، ومحاصرة الطائفية والنزعات القومية على حساب الوطنية، وإبعاد المذهب الديني إلى شأن شخصي. وظف النظام كل هذه المسائل لديمومته، وفعل وسيفعل كل ذلك ولن يتوقف، ولكن الطرف الآخر كان فاشلاً بكل معنى الكلمة.


دمشق وأهلها ليسوا أفضل من بقية المدن السورية. كافة مدن سوريا تضررت دماراً وقتلاً لأولادها، وتشريداً، وإذا كنا نستثني مدناً معينة من الدمار ومنها دمشق، فإن أغلبية السوريين قتل أولادهم في معركة النظام، وهذا ما كان يفترض الوقوف ضده، والنسج فيه، والخياطة فيه، وصناعة سوريا الجديدة.


المثقف السوري لم يكن أميناً لسوريا، وليس له من عذر بطول أمد الاستبداد أو همجيته، أو خيانة العالم له، أو قضايا أخرى. المثقف لم يكن مؤهلاً ليدافع عن سوريا لكل السوريين. لُوثنا بقضايا كثيرة، ولم نكن موضوعيين تجاهها، ولهذا فإنّ الحصاد مرٌ، ونخشى أن ذلك، قد يأكل سوريا التي رغب بها أهلها الثائرون.

الوسوم

التعليقات

تابعنا على   +