أشكال ألوان| في ذكرى مذبحة

أشكال ألوان| في ذكرى مذبحة

يبدو الحديث عن الموت في حضرة حياةٍ لا تشبه الأموات بذخاً، فتلك الحياة لا تملك زخم لحظاتهم الأخيرة ومحاولتهم البائسة لإمساك الأنفس المتسارعة الهاربة منهم.


من بين ما أنتجته البشرية لهذا العالم، كثيرٌ من المستبدين والطغاة والحروب التي خلّفت وراءها ملايين الجثث المشوهة، تتناولها عين الرائي كأمرٍ اعتيادي وحادثٍ، وفي بعض الأحيان كضرورة من ضرورات النصر والبقاء.


أذكرُ تماماً ما أحسستُ به لدى رؤيتي للصور التي سرّبها قيصر، رغم أني ككثيرٍ من السوريين المعارضين لنظام الأسد على علمٍ بما يحدث في المعتقلات قبل رؤية تلك الصور، إلا أنها كانت شيئاً لا يمكن أن يقال عنه «سمعت» فقط، أو أن تُترَك حقيقته لمخيلةٍ تعجز تماماً عن تصويره كما هو. أذكر حينها أنني وللمرة الأولى منذ بداية الثورة أفكر في احتمالية الاعتقال، وأرتعد.


ما رآه العالم من مشهد الموت السوري لم يقف عند حدود الأقبية والمهاجع، بل تجاوزها كثيراً بصور الموت الجماعي لمناطق شهدت حراكاً ضد النظام، لكن يبدو تماماً أن العالم لم يولِ هذا الموت أهميةً، ولم يلقِ بالاً لتلك الصور. فلماذا؟


هل هو مشهد موتنا المتكرر ما أصاب العالم بالملل من رؤيته مراتٍ تلو المرات؟ أم هو عدم رغبة الإنسانية في أن تعترف بعجزها أمام موتنا الموثق هنا وهناك، وتعامُل العالم مع المشهد بمنطق الطفل الذي لا يرى الشيء بأمّ عينه فينكر وجوده؟


أم أنها لربما أخطاؤنا نحن، الذين خرجنا من بين الجثث المكومة بالصدفة أحياء، واضطررنا أن نعطي ظهرنا للقصف المتجدد ممتنين لتلك الصدفة الغريبة، وأعطينا دموعنا لامرأةٍ متعاطفة من جنسيةٍ ما، لتبكي قليلاً أمام صور رعبنا وموتنا في أخبار الثامنة والنصف، ثم تغلق التلفاز وتعود لحياتها الطبيعية، واضطررنا أن نعطي الموت فرصةَ أن يكون مجهولاً في أرضٍ مجهولة، ليس لأننا نرغب بذلك، بل لأننا لم نملك ترف معرفة أحد الضحايا بين المئات الذين سقطوا في لحظةٍ واحدة.


تختلف صور قيصر عن باقي الصور أنها حدثت لمعتقلين عذّبوا حتى الموت، لكن لازال العالم شاهداً حياً أمام صور المجازر الأخرى محاولاً في أحايين كثيرة نكرانها أو حتى التشويش عليها، لأنها الدليل الأقوى عن شعبٍ أعزلٍ لازال يُقتلْ، بيد أن المصالح لم تُحسَم بعد لناحية محاسبة القتلة.


مجزرة الحولة التي قضت فيها أكثر من 100 ضحية ذبحاً، نصفهم من الأطفال، حدثت في الشهر الخامس من العام 2012. تلتها مجزرة داريا الكبرى التي حدثت في الشهر الثامن من العام ذاته، وراح ضحيتها 805 شهداء على مدى أسبوع.


تلتها مجزرة جديدة الفضل في الشهر الرابع 2013 بـ 525 شهيداً على مدى يومين، تلتها مجزرة بانياس في الشهر الخامس 2013 والتي تجاوزت 800 ضحية على مدى يومين. ثم مجزرة الكيماوي في الغوطة الشرقية في الشهر الثامن 2013، والتي تجاوز عدد ضحاياها 1500 في ليلةٍ واحدة، معظمهم من النساء والأطفال.


هذه ليست كل المجازر ذات الأعداد الكبيرة التي حدثت خلال السنوات الخمس المنصرمة، بل هي عينةٌ فقط مما رآه العالم من موتنا الجماعي في مشهدٍ لازال عصياً عن الفهم والإدراك، إذ كيف لكائنٍ يملك عقلاً ألّا يرى في تكرار الفظاعة في حقائق تاريخية لم تكن فقط في سوريا، أمراً لا يستحق بذخ الإيقاف والمحاسبة؟


الثوار هم من قتل تشاوشيسكو والقذافي، في حين أعفي سفاح أوروبا ميلوسوفيتش من الإعدام لينتحر وحده كما قيل في سجنه بعد محاكمته في لاهاي، ولازال زين العابدين بن علي هارباً رغم أنه حكم بالإعدام والسجن لمدة 50 عاماً من القضاء العسكري التونسي.


وليس موسى تراورى أول رئيس يكافأ بالعفو عنه بعد إدانته بجرائم عديدة، كما لم يكن أيضاً بينوشيه دكتاتور تشيلي الأخير والذي مات في بريطانيا هارباً من محاكمته التي لم تتم، وأيضاً لم تكن محاكمة نورمبرج  وصمة العار الوحيدة على جبين الإنسانية.


يقول الروائي والمفكر ميلان كونديرا: «كان الجميع مصدومين بسبب فضيحة المذبحة، لكن لا أحد صدمه تكرار المذبحة. مع أنّ تكرار الفضائح هو مَلِكُ الفضائح جميعها، ذلك لأن فضيحة التكرار تمحوها دوماً، وعلى نحوٍ رحيم، فضيحة النسيان. النسيان؛ ذلك الثقب الذي ليس له قرار، والذي تغرق فيه الذكرى، ذكرى امرأةٍ أحببناها، أو ذكرى رواية عظيمة، أو ذكرى مذبحة».


أعتقد أن خطأنا لم يكن كل ما ذكرته أعلاه، بل كان منذ البداية في تعويلنا على من ظننا أنهم رعاة العدالة الإنسانية، فالعالم الذي اعتاد مشهد الجريمة والموت المتكرر، غارقٌ في النسيان حتى أعماق ثقبه.

الوسوم

التعليقات

تابعنا على   +