أشكال ألوان| عن الوطن الذي لم نعرف

أشكال ألوان| عن الوطن الذي لم نعرف

اليوم وأنا على أعتاب عقدي الثالث من القهر، قررتُ وأنا بكامل ما تبقى لي من عقلٍ لم تذهب به غوائل الوطن الجميل، أن أقتلَ هذا الوطن!


ولأنه -أي موطني- دائماً ما كان يمارس معي «شيئاً ما»، وبسادية ترعب الماركيز دي ساد إياه، ولأنه تجاوز معي حد «الدلع» موغلاً في «المياعة»، فقد قررت أن أقلب سقف الوطن على رأسه، وأن أمارس معه أبغض وآخر الحلال كجزاءٍ من جنس ما اقترفت رجلاه بحقي.


قراري هذا استثار كل مكامن العواطف والأغاني الوطنية ومياه «بردى» وهواء قاسيون في ضمائر دائرتي الاجتماعية الضيقة أصلاً، والتي استحكمت حلقاتها ضيقاً أكثر عقب هذه الحرب، فحاولوا ترويضي بشيءٍ من شِــعر، لكن بلادةَ تفكيري وتراكمَ الجثث والموت في دمي، حالت دون استجابتي لهكذا مخدرٍ ممجوج.


«حدا ببيع وطنو؟!»، وحده هذا السؤال الخبري اﻻستنكاري اللعين ظل عاملاً مشتركاً على ألسن كل من فاتحتهم بالموضوع، مقسمين بعظام الماغوط وقباني وهنانو أنني سأدفع ثمن غربتي، وبما لن أطيق.


الحقيقة أنني وقفت مطوﻻً على هذا السؤال لكثرة ترداده، رغم قناعتي بأنني فعلاً لم أفكر بقصة البيع حين قررت الهجرة!


فأوﻻً هذا الوطن الرائع ليس من تركة الوالد أطال الله عمره كي أقول لسكانه: «يلا يا قوم، فراغ لزوم البيع بداعي السفر»!


لو كنت أملك فرصة ذهبية كهذه، فهل كنت سأنتظر حتى اليوم؟!


ثمانية وعشرون قهراً يفترض أنها اﻻجمل في حياة الإنسان، عشتها على حافة الحياة بقدمٍ عرجاء وأخرى مقطوعة، ولدي وطنٌ للبيع وانتظر؟! هل أبدو لكم بهذه البلاهة؟!


دعكم من ذلك.


ثانياً، بربكم.. من له حاجة بهكذا مصيبة؟ فالمشتري حتى لو كان يفطر الماريغوانا ويتروق التبن البلدي، فإنه لن يضع يده بيدي لإتمام الصفقة، بل ستتولى قدمه مهمة ركلي من مكتبه  للرصيف، ولن تقنعه إغراءاتي بعراقة أوغاريت وحمام زنوبيا وغيرها بفتح الباب مجدداً إﻻ للركل، أيضاً مجدداً!


ثالثاً وهو الأهم، من سيتجاوز حد المنطق والحياء ويشتري هكذا بلوة لغاية في حذائه، فإنه لن يأتيني أنا ليعرض عليَّ البيع، سيجد من وﻻة الأمر من يبيعه، وأصبحُ أنا المواطن من جملة «العفش»، يبيعون ويشترون فيَّ، وأتحولُ إلى مرغباتٍ للشراء.


كأن تجدوا إعلاناً مثلاً: وطنٌ للبيع بمواطنيه، مواطنون مجرّبون، سوبر سُكُوت عن حقوقهم، يعملون أكثر من بغال التهريب ويتحملون كافة الظروف والكوارث المناخية، وﻻ يأكلون حتى حين يجوعون، وإن وجدوا ما يأكلونه ولم يشبعوا، إنه لـــ طز.. سوف ينامون!


يتابع الإعلان: مواطنون ﻻ يعصونكم فيما تأمرونهم، ظواهر صوتية على ذمة عبد الله القصيبي، فقط زينوا لهم حياتهم بالكفاف الممسوخ والفتوى المعلبة والفياغرا، وأبشروا بالسمع والطاعة!


أرأيتم؟ ﻻ أملك أن أفكر بفكرة البيع لأسباب تقنية بحتة!


لماذا أهاجر إذن؟!


وما أدراني؟!


السؤال «الفلهوي» الأهم والأجدر بأن يطرح هو: لماذا أبقى؟!


عشرون عاماً قضيتها واعياً لما حولي، و ثمانيةٌ قبلها لا أعيها، ولكنني أستدل عليها بخشونة كف والدي وشقائه. مررتُ بكل المراحل الدراسية في مدارس وجامعات الوطن، وذقتُ فيها من اللوعات الوطنية ما يهدُّ صبر شعراء الغزل أجمعين، وتنقلتُ بين مدنه بكافة مستوياتها القهرية، وخَبِرتُ أهله البارّين منهم والعصاة، ولم أجد شاكراً للوطن، كلهم يشكرون الله ويسكتون عن المغزى الحقيقي من هذا الشكر، أﻻ وهو الصبر!


كنتُ أشعرُ في كل يومٍ أحياه فيه كما لو أن هناك محاولةً فاشلةً ﻻغتيالي، وأحيا مترقباً اليوم التالي!


أفقدتني مرارة أيامه متعة تذوق مياهه أو ثماره، وأزكمت أنفي روائح الموت البطيء فيه، حتى بات استذكار هوائه كفيلاً باختناقي رغم أنف سعيد عقل، وباتت مصطلحات الياسمين وقهوته الصباحية وفيروزه مثيرة للقرف والسخرية، أكثر مما تثير الحنين الذي لم نجرب أو نحسّ!


كبرت فيه وأنا كــ«سوبر ماريو» في لعبته الشهيرة، ولكن ﻻ مجال لإعادة اللعب هنا حين تسقط في فخٍّ ما. نعم تُعاد إلى الحياة، ولكن جزءاً منك ومن وطنك في داخلك يكون قد مات. وهكذا تتالى السقوط في أفخاخه، وتتالى موت الأجزاء حتى اكتمل موتها التدريجي اليوم.


يكتملُ الأمرُ بقطعِ آخر صلةٍ بيني وبينه، وأقصد بسكانه. ست سنوات من الثورة كانت كفيلة بأن أعرف وأعترف، بأن خطَّ الدفاع الأخير الذي أعوّلُ عليه في هذا الوطن قد انهار، وأن من نعوّلُ عليهم لتصحيح مساره هم أنفسهم من أمعنوا في سحقنا وسحق أنفسهم فيه، وأن من استردوه من ظالمٍ في لحظة سُكْرٍ قد سلموه لظالمٍ في لحظة تقوى، وأن هذا الوطن لن يكون له متابٌ من هلاكٍ قادمٍ ﻻ ريب فيه، وأنه طالما جعلني أفكر بل وأجاهر بمعصيته، فهو الجاني عليَّ حين أهجره، ﻻ أنا!


فاسألوه هو لماذا باعنا!


أين أمضي؟


والله ﻻ علم لي، سأصدق حذائي في ممشاه أينما يمم، وأُكذِّب الوطن.

الوسوم

التعليقات

تابعنا على   +