أشكال ألوان| حمص.. أيّ مدينة سأزور

أشكال ألوان| حمص.. أيّ مدينة سأزور

منذ بداية التسعينات، غادرتُ حمص إلى جامعة دمشق. حمص هي المدينة التي استأجرتُ غرفاً فيها لست سنوات متتالية، أعرفُ كثيراً من شوارع حمص، ومحلاتها، ومقاهيها، والساعتين القديمة والجديدة، رمزها التاريخي، حيث اجتمع «الحمامصة» في ساحة الأولى ليقولوا للنظام في 18-4-2011 الشعب يريد إسقاط النظام. فاشتد خوفه، وخشي أن يستولي الشعب على ساحات المدن، فيتكرر سيناريو تونس ومصر وحينها يسقط فعلاً. فكان ردّه بمختلف أشكال السلاح، وكانت مجزرة الساعة، وتتالت بعدها المجازر ولم تتوقف إلى لحظتنا الراهنة.


حين كنت أشدُّ رحالي إلى حمص، لأزور أسرتي، في زمن حافلات الهوب هوب، وقبل أن تصل الحافلة إلى الكراج الرئيسي عند ساقية الري المتفرعة من نهر العاصي، كنت أنزلُ في مكانٍ بعيدٍ نسبياً عن كراج الميكروباص المخصص لقريتنا النائية، على طريق الكورنيش، وبالضبط قبالة حديقة وشارع الدبلان الشهير، وأسيرُ عبره، متلفتاً كشخص يخشى الاعتقال، ومتفقداً الجديد فيه: المحال، الأبنية، وجوه وألبسة الناس، الأرصفة، كل شيء. وفي نهاية الدبلان تواجهك الساعة الجديدة الشهيرة، حيث يبدأ قلب حمص القديمة تماماً، حيث المقاهي والحدائق، وحيث دمّر الطيران أحياءً بأكملها.


أتأملُ ساعتها المعطلة دائماً، ثم أرى سينما حمص، وأنعطفُ أحياناً نحو المتحف وأدخل الشوارع الضيقة، هناك في أحياء جورة الشياح، التي كانت أبنية قديمة وحديثة لمساحات كبيرة، وقد سوّيت بالأرض تماماً، وأصبح يُرى منها مسجد خالد ابن الوليد كما قيلَ لي! وأحياناً كنت أنطلقُ من حديقة الدبلان وأذهبُ شمالاً نحو المشفى الوطني، مروراً بأحيائها القديمة المحافظة حيث حي القرابيص. وهنا أيضاً سُوّيَ كل شيء بالأرض. لم أرَ ذلك، ولكنني شاهدته عبر التلفاز وأفلام اليوتيوب وصفحات التواصل الاجتماعي، وسمعت عنه من أحاديث الأصدقاء؛ تخيفني رغبتي بعدم الذهاب إليها، فماذا سأرى حينها، وكيف سأعيدُ تشكيل المدينة في ذهني مجدداً، بل أيّ مدينةٍ سأرى؟


حين أصل إلى الساعة القديمة، وهي تبعد عن الجديدة قرابة 700 متر، أدخلُ سوق الخضار أولاً ثم السوق القديم جنوباً، وهناك سوق الدجاج شمالاً، ولكنني أفضل السوق المسقوف بالتوتياء، حيث محلات الملابس والعمارة القديمة. هنا أمعن النظر في المحال القديمة، ففيها أسواق الألبسة والقماش والذهب ومختلف الحاجيات، والذي كان مكاناً لتسوّق أغلبية أهالي حمص والقرى المحيطة بالمدينة؛ ومنها يمكن الوصول إلى سوق الحشيش؛ كل هذه الأحياء طالها الدمار بشكلٍ كبير. ثم أعودُ ووجهتي نحو شارع الحميدية، الشهير بأغلبيته المسيحية؛ هنا تتغير نسبياً ملابس الناس وتُرى نوافذ شرفات المنازل دون ستائر تغطي نساء الشقق.


أنعطفُ نحو شارع الأظن، والذي يوصل إلى شارع وادي السايح فكرم شمشم، ثم نحو حيّ الخالدية الشهير بمعارضته للنظام وبأمسيات الغناء، وأيضاً هناك الدمار عظيمٌ.


كلما حاولت تذكر الأحياء التي سكنتها في حمص، وهي كرم شمشم ووادي السايح، والشوارع التي سرتُ فيها، أجدُ نفسي متجاهلاً ما حدث لاحقاً، لا ترغب الذاكرة باستقبال كل الدمار الذي لم يترك حياً في المدينة القديمة إلا وأصابه بأضرارٍ بالغة.


كان طريق إعداديتي وثانويتي يمر من وادي السايح ونهاية شارع الحميدية، مروراً بشارع كنسية أم الزنار، ثم مدرسة القدس فثانوية الغسانية للبنات الشهيرة، والتي كنّا ننتظر الصبايا قبالتها. ثم نحو أحياء ضيقة في حي باب الدريب، وبعدها القلعة ووصولاً إلى حيّ الخضر فمدرسة ثانوية رفيق رزق سلوم. كل هذه الأحياء أيضاً دُمرت أغلبيتها؛ هي في ذاكرتي عامرةٌ تماماً؛ وأتساءل: هل ستُبنى كما كانت من قبل؟ أم ستكون عرضةً -كما قيل- لتغييرٍ ديمغرافي يمنع سكانها الأصليين من العودة إليها، وتكون مكاناً لبنايات برجية لا علاقة لها بالمكان ولا بثقافة السكان ولا بمدينة تستقبل يومياً ألاف الفلاحين والبدو؟ أو لنقل إنها كانت كذلك. هذه المشاريع هي محض تجارية لرجال أعمالٍ لا تعنيهم المدينة، ولا شجاعةُ أهلها الذين قاتلوا لأكثر من عام، وحينما خرجوا أخذوا أسلحتهم معهم، وكان التفاوض عبر وفدٍ إيراني! ونذكر هنا أن من عاد بعد خروج المقاتلين لتفقد منزله فوجئ ببقاء محتوياته كما كانت قبل الحصار، ذلك إن سلمت من القصف، وأنَّ ما أُخِذَ من تلك البيوت كان فقط المواد الغذائية.


هل يمكن لأحٍد أن ينسى مدينته؟ فكيف بمن عاش فيها وهي تُقصف، بل وقبل ذلك وهي تتظاهر، بل وبعد ذلك وهي تُقاتل، أو حين خرج الناس بعد أن خذلهم العالم بأكمله؟


يصعبُ على المرء نسيان أهل تلك المدينة المجانين، فعلاً كانوا كذلك وهم يقاتلون بسلاحٍ خفيفٍ دولةً بكاملها، وفي النهاية تتدخل دولة أخرى ليتم استباحتها، وإنهاء مقاومتها الاستثنائية في تاريخ الثورات الشعبية.

الوسوم

التعليقات

تابعنا على   +