أشكال ألوان| «النازيون» العرب و«الساميون» الكرد

أشكال ألوان| «النازيون» العرب و«الساميون» الكرد

يقول جورجي كنعان، السرياني والقومي السوري الاجتماعي حزبياً، في كتابه «تاريخ الله» أن الشعوب التي عمرت بلاد الشام والعراق، قد خرجت شمالاً من الجزيرة العربية في الألف الثالث قبل الميلاد بحثاً عن الماء والكلأ، وأن من اصطلحَ على تسميتها بالهجرة السامية هو المؤرخ الألماني اليهودي شلوتزر، ولو أنه اصطلحَ تسميتها بالعربية أو الجزرية أو الجنوبية، لوقرَ ذلك في كتب التاريخ.


يضم ذلك حضارات سومر وبابل وأكاد والفينيقيين والأموريين، لكن التسمية هذه جاءت لتؤسس لقراءة توراتية للتاريخ، تلك التي وضعت أبناء العمومة من بني إسرائيل، ليس في الصدارة فحسب، بل وجعل السامية تعنيهم دون غيرهم، وأُخرِج الباقون من نسب سام.


سياسياً، سيكون فيما بعد مصطلح العداء للسامية يخصّ أي تعرض لليهود خصوصاً بعد ما رويَ عن المحرقة، فجاء الأمر كتطييب خاطر، وكرغبة كونية بالانتصار لقوم لهم روايتهم في مظلومية تاريخية.


سورياً وفي غمرة مشارع التقسيم وأزلامها، يمكننا المقارنة بين نزوعين لا بين مكونين للشعب السوري الواحد؛ فلنا أخوةٌ في الوطن تقاسمنا معهم الماء والهواء وكسرة الخبز والمصير، وكانت أخوّة الوطن، أكثر تجذراً من رابطة الدم مع أبناء العمومة، في الجزيرة العربية أو مصر والعراق. أقول ذلك جازماً، وما حُسن الجوار في الشارع والحي والقرية، وتسجيل أجانب الكرد أملاكهم باسم العرب دون حرج، أو تعدٍّ، سوى ترسيخٍ لهذي الحقيقة، وتعبيرٍ عن تواشجٍ متجذرٍ بين المكونات صمد كل هذا الزمن، حتى لتبدو مقولة التوفيق القسري بقوة النظام جاهلة وملفقة، رغم أن النظام بأدواته الخفية قد بثّ بذور ثقافةٍ مَرضيّة تشجع تكوين صورة نمطية عن الآخر أياً يكن طيفه إثنيةً، ديناً، أو مذهباً، ودفعَ للتحوط والتسوير وبناء الجدران الخفية في النفوس. وأمام هذا الشرخ العمودي في بنية المجتمع، لا بدَّ من التقربِ أكثر في مجتمع ليس طوباوياً بأي حال، والاعترافِ بحقيقةٍ ظاهريةٍ تقول إن هناك عرباً وكرداً يكرهون بعضهم بعضاً. وبالنفاذ إلى طبقة أعمق من المعرفة التي يشي بها سطح علاقة الكره هذه، نكتشف بما لا يقبل الشك -ضمن العينة التي لا تمثل كلاً- أن كراهية العربي للكردي ليست كُرهاً للكردية كأصل عرقي نشأ منه الكرد، كذلك ليست كراهية الكردي للعربي كرهاً للعروبة كمنشأ، إنما هي كراهيةُ القومية كفعلٍ سياسيٍ لهذا العرق أو ذاك، فالأحزاب القوموية من البعث العربي إلى نظائره في «البعث» الكردي، سارت وفق طريقة واحدة هي الإقصاء واعتماد ثقافة التجييش وبث ثقافة التناحر مع الآخر، وكأنه لا بدَّ من آخرٍ مختلَفٍ معه، لتبرز مبررات التخندق والالتفاف حول هذا الحزب أو ذاك، ولا بد من صناعة ندٍّ لتبقي على مبررات وجودها.


عملياً كان البعث منشغلاً كحزبٍ طاغٍ على الدولة والمجتمع بندية تجاه الشعب ككل، وإنه لعسفٌ للحقيقة أن يتم وصف تغوله وانتهاكه حقوق المجتمع ككل، بنزوعه تجاه مكونٍ بعينه دون آخر، كما شرخت الأحزاب القوموية الكردية عقولنا بأسطوانة المظلومية التي رغم وجودها لم تخلُ من المبالغة، متناسيةُ وجوب اندغام كل المظلوميات الجزئية في المتن الأساسي لمظلومية الشعب السوري ككل، والاشتراك في نزوعه الحميم بكل مكوناته لبناء دولة الجميع، فاتجهت الأحزاب نحو صنع مثقفين، واستجلاب آخرين منجَزين ليكونوا أبواقاً لها، واستغلت ثقافة انطوائية في تعبئة الشباب ليكبر على رؤى متخندقة مبررةٍ ومسوغةٍ للفعل الحزبي، وبدلاً من أن تنشأ ثقافة إثراءٍ وتنوع، نشأت ثقافة تأطيرٍ وتصيُّد، بل واحتطابِ أحداثٍ وإضفاء عمقٍ تاريخيٍ لها، وإعطائها عمقاً تجذيرياً لغسل الأدمغة تزويراً، فبدا التاريخ ثوباً يمكن اجتزاز أي قطعة منه، لترقيع أي وجودٍ قديماً كان أم طارئاً.


إن مظلوميةً لا يمكن إنكارها تُردُّ على مرتكبيها من الأنظمة وليس الشعوب، فما الذي يجعل الشعوب تدفع ثمنها، إذ تكشّف لدى مثقفي الأحزاب الكردية ذات التوجه العصابي الانتقامي، ولدى سدنة خطابها «البعثي» الجديد اتجاهٌ يبرر تهجير سكان الجزيرة السورية الأصليين من العرب، وإنكار مجازر فضحتها منظمات حقوق الإنسان بشكل صريح ضد المدنيين، ومحاربة الوطني من مثقفي الكرد واتهامه بخيانة «القضية». أما الوطني من العرب فــ«الداعشية» بعد انتهاء صلاحية «الصدّامية»، والبعثية، والشوفينية التي وصمَ بها المزورون كل من خالفهم، إذ لم يسلم المفكر اليساري د.عبد الرزاق عيد منها لمجرد تجريمه مليشيا حزب العمال واعتبارها لا تمثل الكرد، وجُرِّمَ الباحث محمد جمال باروت السوري العلماني على كتابه «التكون الحديث للجزيرة السورية» الصادر عن مركز الجزيرة للدراسات، لإثباته علمياً عبر كتب التاريخ الحديث والوثائق الفرنسية والعثمانية والتركية، عراقة أكراد دمشق وطارئية أكراد القامشلي والحسكة القادمين من تركيا، عبر موجات الأعوام التسعين الماضية، رغ التزامه والتزامنا جميعاً بحق المواطنة كحقٍ أصيل.


ما نراه الآن انعكاسٌ لثقافة حزبية موتورة ومزورة مسكونة بهاجسِ كائنٍ مؤقت، مُطاردٍ ومهدد، لاتجد ذاتها إلا في حرابة الآخر، وانعكاسٌ لعقدةٍ قوموية لهوية طارئة ما قبل وطنية، بعيدة عن ذهنية الفلاح والعامل الريفي من عموم كردنا الوطنيين. وبينما عبرت الثورة عن تبنيها لمظالم الكرد، عبر كل مظاهراتها وعملها السياسي، ومبدأ وحدة الشعب السوري الذي يبدو أن لم يَرُق للأحزاب، فلعبت على التحشيد والتخويف من آخرٍ عربيٍ مجاورٍ ومتواشج، لم يرتكب عبر سنين الثورة أي ظلمٍ بحق الكرد، مثلما التزم السوريون ككلٍ باعتماد المواطنة، وإسقاط نظرية القدم التاريخي لإثبات حق المواطنة وحق العيش المشترك في دولة تعددية، تشكل أفقاً سياسياً لشعب يختار سلطته، وفق دستور يُستفتى عليه الجميع.


وتحت مسمى إلغاء التعريب ورفع الحيف، تم تكريد رأس العين المدينة السريانية الوارد اسمها «رش عينو» في أمهات الكتب منذ عام 357م، ويجري تكريد كل ما يقع تحت سيطرة مليشياتها. فكيف لنا أن نثق بمثقفٍ يتشدق بالوطنية، ويفرض مصطلح «كردستان سوريا» الذي لم يكن متواجداً في أدبيات الأحزاب قبل عقدٍ من سقوط بغداد ونشوء إقليم «كردستان العراق».


الغريبُ أن مثقفين سوريين كثراً من غير الكرد تعاملوا بعقلية المُدان، فتملقوا على حساب حقيقةٍ جهلوها، أو توانوا بعقليةٍ كسولةٍ اعتذارية دون بحثٍ وتحقق، فجعلوها مظلوميات مؤبدة لاتاريخانية ثابتة ثبات الأنظمة، حيال ذلك لا بدَّ من تعرية الأحزاب ومثقفيها، التي تسير بجماعاتها البشرية نحو قطيعة وتتجه لتثبيت نفسها كسلطة احتلال باسم سلطة الأمر الواقع، ناسفةً العقد الاجتماعي لدولة المؤسسات والتعدد لا دولة المحاصصة. والتأييدُ الغربي لا يعني حقا منزّلاً، وكل احتلالٍ سيفرز مقاومته ولو بعد حين، ولأبواق هذا التوجه نقول: ارحموا تاريخ الكرد، لأنكم إذ تسمّون إجرام المليشيات حركة تحرر، تنسفون ثقتنا بثورة الشيخ ملا سعيد بيران، ومهاباد.

الوسوم

التعليقات

تابعنا على   +