أشكال ألوان| السيارات المفخخة: وسائلُ إعلام الديكتاتور

أشكال ألوان| السيارات المفخخة: وسائلُ إعلام الديكتاتور

لطالما سخر السوريون من مصداقية إعلامهم، واعتبروه كاذباً ومسيّساً، ولطالما أطلقوا النكات التي تتناول هذا الموضوع، كردّة فعل ساخرة للنيل من هذا الإعلام، فالراحل ممدوح عدوان قال عن هذا الإعلام بأنّه يكذب حتى في نشرة الأحوال الجوية؛ ولئن دلّ هذا على شيء، فإنه يدلّ على أنّ المواطن السوري يدرك تماماً الطبيعة الأمنية لإعلام النظام، وأنّه واحدة من الوسائل التي اعتمدها في مصادرة رأي الناس والقبض بيد حديدية على أحد أهم المفاصل التي تتحكّم بالحياة العامة.


ومع أنهم يعرفون أسماء الأدباء والشعراء والإعلاميين «المغضوب عليهم»، ويدركون أن النظام السوري لم يكن ليسمح يوماً للكلمة أن تطير عبر الأثير دون أن تمرّ على فلتر الرّقيب، الذي كان يرشح منه ما يخدم «البروباغاندا» التي ينشرها لتأسيس جمهورية الرّعب والخوف، والتي أبقته في سدة الحكم على مدى نصف قرن من الزمن.


غير أنّ المشاهد الكارثية التي جرى بثّها في الآونة الأخيرة، من مشاهد مع الجثث التي أبدع فيها مراسلو النظام عبر شاشة تلفزيونه الرسمي، والمحطات الموالية له، أماطت اللثام عن الوجه الآخر للحرب، المتمثل بسلاح جديد من الأسلحة المحظورة دولياً، والذي لا يقلّ فتكاً عن الأسلحة الكيماوية والنووية.


مشاهد صادمة بالفعل كانت تلك التي ظهر فيها مراسلا النظام «كنانة علوش» و«شادي حلوة» مع جثث من ينعتهم الإعلام الرسمي بالإرهابيين، ولكن المشكلة الحقيقية تكمن في أننا لا نشعر بالألم إلا حين ينغرز المخرز في بؤبؤ أعيننا تماماً، وأن للنظام السوري تاريخ طويل مع التصفيات الجسدية بحجة العمالة لإسرائيل، والنيل من هيبة الدولة، تلك التهمة المضحكة، التي تثير في الذهن تساؤلات عدة حول طبيعة هذه الدولة التي تهتز صورتها بسبب كلمة!


ذلك المخرز قد انغرز طويلاً في أعين اللبنانيين الأشقاء، ولكننا لم نره، فالاغتيالات السياسية التي اتهم بها النظام السوري منذ نشوب الحرب الأهلية، وحتى الوقت الراهن، مروراً بمرحلة تواجد جيش النظام ضمن قوات الردع العربية التي تركت له الساحة خالية في لبنان لاحقاً، ليخنق سوريا من خاصرتها، ويعطّل الحياة السياسية والإعلامية فيها، من خلال النيل من كلّ من يفكر في هز أركان إمبراطورية الرعب التي أنشأها.


ولكن تبقى مرحلة ما بعد اغتيال رئيس الوزراء  اللبناني الراحل رفيق الحريري، والتي أسفرت عن استصدار القرار 1757 من قبل مجلس الأمن الدولي، بتاريخ 30-5-2007، الذي تشكّلت بموجبه محكمة خاصة بجريمة اغتيال رفيق الحريري، هي الأسوأ على الإعلاميين اللبنانيين، حيث كان المتهم الرئيسي في ارتكاب الجريمة وقتها هو النظام السوري؛ الأمر الذي جعل النظام يقوم بسلسلة من الاغتيالات السياسية، تطال الطبقة السياسية في لبنان، بالإضافة إلى بعض الشخصيات الإعلامية الفاعلة والمؤثرة في الرأي العام اللبناني والعربي، وحتى العالمي، من أمثال سمير قصير، جبران تويني، ومحاولة اغتيال فاشلة للإعلامية اللبنانية مي شدياق.


أول الاغتيالات التي ارتكبت بحق الإعلاميين اللبنانيين وأبرزها، كان اغتيال الإعلامي الأكاديمي «سمير قصير» في الأشرفية ببيروت. جاء هذا الاغتيال على خلفية مواقف «قصير» المناهضة للنظام السوري، وهو الذي يتحدّر من أب فلسطيني وأم سورية؛ هذه المواقف التي تسببت بإنهاء حياته، عن طريق عبوة ناسفة زرعت في سيارته، لتنفجر صباح يوم 2-حزيران-2005 تاركة خلفها شهيداً هو من أبرز كتاب صحيفة النهار اللبنانية، ومديراً لدار النشر التابعة لها، ومحاضراً في جامعة القدّيس يوسف.


لم يكن سمير قصير مقرّباً من النظام السوري يوماً، ولم يكن هناك تحوّل في مواقفه، كما هو حال «أراجوزات» السياسة والإعلام، ممن حيث مالت الرياح يميلون، بل إنّ موقفه من هذا النظام كان واضحاً وجليّاً من خلال افتتاحيات مقالاته التي كانت تنشر في صحيفة النهار، خلال العقد الأخير من القرن الماضي، ومطلع الألفية الثانية، والتي كانت تثير حفيظة الأجهزة الأمنية في لبنان؛ الأمر الذي دعا اللواء جميل السيد إلى تهديده بالقتل هاتفياً، وكذلك سحب جواز السفر منه عام 2001، لتتمّ إعادته إليه لاحقاً.


كان للشهيد سمير قصير دور كبير في تشكيل رؤية سياسية واضحة لدى الرأي العام اللبناني، وحشد التأييد لمواقفه السياسية، بالتوازي مع دوره في منع الرأي العام للانزلاق في المنزلقات التي كان النظام السوري بمساعدة حلفائه في لبنان، يسعون إلى جرّ المنطقة إليها، فوقف في وجه اللغة التحريضية ضدّ السوريين، التي تبنتها بعض الوسائل الإعلامية، كما أوجد مصطلح «انتفاضة الاستقلال»، للتذكير بانتفاضة الحجارة الفلسطينية عام 1987، والربط بين سموّ القضيتين، بغية التأكيد على نبل مساعي انتفاضة الاستقلال اللبنانية.


لقد أرّخ اغتيال الصحفي اللبناني سمير قصير لمرحلة جديدة في مسيرة النظام السوري، عنوانها  تفجير الكلمة الحرّة، وخنق صوت المنطق، وهو ذاته ما يرتكب اليوم بحق أصحاب المشروع الوطني البعيد عن الطائفية ولغة التجييش، فالعبوة الناسفة كانت مصير «قصير»، ليتبعها بعد ذلك بحوالي ثلاثة أشهر محاولة اغتيال للإعلامية «مي شدياق» والتي كانت تعمل في المؤسسة اللبنانية للإرسال (LBC)، على خلفية مواقفها السياسية، وذلك في منطقة جونية  بتاريخ 25-9-2005، ما أدّى إلى بتر طرفيها من الجهة اليسرى، وتسبّب لها بجروح بليغة، أبعدتها عن عملها في الصحافة، وهي الحائزة على شهادة الدكتوراه فيها. ولا ينقضي عام 2005، قبل أن يحمل معه كارثة جديدة لصحيفة النهار، ففي 12-12-2005، قضى الشهيد جبران تويني، رئيس تحرير الجريدة في ضاحية المكلس، بسيارة مفخخة.


لقد كان عام 2005 هو مؤشر البوصلة الحقيقي الذي يشير إلى الاتجاه الذي تسير به حرية الرأي والتعبير في المنطقة، فالألغام والسيارات المفخخة كانت نصيب كلّ من وقف في وجه النظام السوري؛ المشهد الذي لا يختلف كثيراً عن التقاط السيلفي مع الجثث، أو تصفية المبدعين السوريين تحت التعذيب في السجون السورية؛ الكارثة الحقيقية أننا لم ندرك يومها أن الكلمة الحرة، ثمنها سيارة مفخخة.

الوسوم

التعليقات

تابعنا على   +