أشكال ألوان| اغتيال عقل

أشكال ألوان| اغتيال عقل

(اغتيال عقل) لا يبدو العنوان غريباً ونشازاً مع اختلاطِ أصواتِ القتلة اليومية في أكثر من بلدٍ عربي، ولايبدو الفعل غريباً مع اختلاف القتلة منهجياً وتقاربهم براغماتياً، بحيث يصبحا: الصوتُ والفعلُ، كلاً واحداً يدعمُ فكرةً واحدة: إذا كانَ قتل الأرواحِ لكثرته وتكراره خرجَ من كونه فعلاً نادراً إلى كونه فعلاً عادياً، ممكناً ولهُ ما يبررهُ أشخاصاً وأدواتٍ! فلا ضيرَ من قتلِ العقلِ باعتبارهِ قتلاً انتقائياً، ليس اعتباطياً كما يحدثُ في إبادةِ حي أو مدينةٍ بحجةِ أنّها حاضنةُ «إرهاب»، ووجود إرهابيٍ واحد يسمحُ للضمير بالموت أو التماوت لتُعدمَ مدينةٌ بناسها وبيوتاتها وأشجارها وأمنيات أطفالها وأطفالها أيضاً.


لاشكَّ أنَّ السرديتين التاريخيتين العربية والغربية تحفلانِ بقصةِ إعدامِ العقل، والوقائعُ التي تشير إلى ذلك لكثرتها وتنوعها باللبوسات التي تتلبسها كلُّ قصة على حدة، يجعلُ من استحضارها نوعاً من تأكيدِ المؤكد، ونسفِ اليقين، وبالتالي التقليل من حجمِ الظاهر «الفينيومينولوجي»، والسماح للشك بالدخول، وقد تكون صورةُ السياسة/السلطةُ هي الحاضرة، بينما السيادةُ تكونُ للديني غالباً، فالاغتيالات في الدولةِ الإسلامية طالت أول ماطالت الأئمة والمجتهدين في تفسير النص المقدّس، أو الذينَ ماحكوا بهدف مقاربةِ موضوعات دينية قالت بأنَّ خير ناس الأمةِ «العلماءُ المُجادلون»، وينسحبُ هذا علىَ العلاقةِ الكنسية البطركية غربياً، ومحاكمِ التفتيش وسطوة رجالِ الدين القريبين من البلاطات ومن صنّاع القرارِ السياسيين، هذا في عصورٍ خَلَت، غير أنَّ هذهِ الصورة عربياً «ازدهرت» أكثر بوجودِ أشباه حكّام، لاينتمونَ إلى دول بوعيهم وإنما ينتمونَ إلى منظمات (موضوع قاربه العروي في كتابه/ مفهوم الدولة)، وإذا كانت الدولة كمفهوم تبنى على قيم العدالة والحق والقانون ومفهومات حقوق الإنسان، من ضمان لحياته وممارسة الحريات، فإنَّ المنظمة تُبنىَ على عقلِ العصابة ويكونُ الرئيس هو رئيس عصابة، له الحق في تصفية خصومه بالاعتقال والإعدام والتضييق، والمراسيمُ التي يصدرها ستخدمُ توطيد سلطته، وثلةً من المتنفذين، غالباً هم من الأقربين بيولوجياً لهُ، أو من قُوّادٍ قليلي الكفاءة، لهم طموحاتهم التي تحققها العصابةُ ولا تحققها الدولة، كذلكَ رجال دين من الدرجة الُدنيا، يدبِّجونَ خطبةَ الجمعة بما يلتقي وتوجه «السيد الرئيس» ويتنافى في كثير من الأحيان مع مايقولهُ النص الديني.


اغتيال العلاقة بين بلدين:


ومن اغتيال العقل أو إعدامهُ كما تعرفناهُ من خلال السرديةِ التاريخية، إلى اغتيال العلاقة بين بلدين، ورسم حدودٍ نفسية قائمة على التوجس والخيفة، بحيث يصبحُ كل مايتحرك مفخخاً وقابلاً للتفجير في أي لحظة، ويصبحُ القول/ الرأي جريمة كبرى، وفي ظلّ الدولة/ المنظمة بالمعنىَ العصاباتي، يكونُ استئصال الحنجرة حلاً، بل يتعدىَ الكتم هنا كواتم الصوت إلى إعلانِ الصوت على ملء وحشتهِ بما يشيعهُ من نار ودخان ودم لايراه المغدور فحسب كآخر مايراهُ من قاتله، وإنّما يراهُ أكبر عدد من الناس ويسمعونه ويتلمسونه ويتشممون الرائحة، مايعني أنّ الاغتيال وإن أخذ شخصاً معيناً بذاته واسمه وفعله الذي أخافَ السلطة، فاستوجبَ «قصاصه»، فإنهُ أخذَ آخرينَ مازالوا أحياء ولكنَّ بعُقدٍ وخوفٍ مزمن، سيرافقهم طيلةَ حياتهم.


كانت الأقوال والأغاني تصدحُ عن: «شعب واحد في بلدين» و«سوا ربينا» وقد يكونُ الأمر صحيحاً، فأكثر شعبين متقاربين هما السوري واللبناني، حتى لو استثنينا «بلاد الشام» و«الأمة العربية» و«سوريا الكبرى» الطبيعية، فإنَّ العسكر الذي واجهه الصحفي الشهيد «سمير قصير» بالسؤال: «عسكر على مين»، ليس هو العسكر السوري بمخابراته العسكرية وقادته الذين أحيلوا إلى التقاعد، ثم انتحروا في مكاتبهم، (أغلبهم فعلَها بخمس طلقات في الرأس!) ليسوا هُم الذئاب الذين أرادوا أن يكونَ الإنسانُ ذئبَ أخيه، ولم ينجحوا إلاّ في تفخيخ السيارات وعقول السياسيين، ابتداءً من الضاحية الجنوبية بأعلامها الصفر إلى نفوس انتهازيين، لم يجدوا في خروج الجيش العربي السوري خروجاً للنظام السوري، فحجوا إليه وقدموا الولاءات وسهّلوا اصطيادَ العقول وأصحاب الكفاءة، وبذلكَ تحولّ لبنان، الدولةُ المحكومةُ بالمخابرات من قبل، تحولَ علناً إلى مناطق النفوذ والمحاصصة المحكومة بالمخابرات نفسها وبشكل مضمر.


ستأتي ذكرى اغتيال سمير قصير ورئيس تحرير صحيفتهِ النائب جبران تويني، ولبنان لم يتعاف، وإذا جاء عنوان إحدى الصحف «اغتيال صحفي النهار في وضح النهار»، فإن العنوان سيصحُ: «اغتيال بلدين في وضح النهار». لقد طالب اللبنانيون أن تضاف جريمة اغتيال الصحفيين إلى جريمة اغتيال رئيس الوزراء الأسبق رفيق الحريري، وتوعدّ المسؤولون بكشفِ الحقيقة، كذلكَ توعد العالمُ والمحققون، وبقيت الأمور معلقة كأسئلة بائسة، والشيء الوحيد الذي تمَّ هو الإدانات والشجب والاستنكار، وتناقُصُ الأدلة والشهود فمنهم من قضىَ «انتحاراً» ومنهم من قضىَ دفاعاً عن العتباتِ المقدسة في «الست زينب» وحلب، وقبلها القصير والزبداني.

الوسوم

التعليقات

تابعنا على   +