أشكال ألوان| اعترافٌ ضروريٌ كي لا يصير الإحباط قدراً

أشكال ألوان| اعترافٌ ضروريٌ كي لا يصير الإحباط قدراً

لم أكن أقرأ كتابات سمير قصير في تلك الأيام، كنت أسمعُ باسمه فقط، وأولُ حضورٍ قويٍ له في ذاكرتي كان يوم خطبَ في حشود المتظاهرين في بيروت إثرَ اغتيال رفيق الحريري، ثم يومَ استُشهد.


لا أعرف أشياء كثيرةً عن الرجل حتى اللحظة، ولو أردتُ أن أكتب ما أعرفه عنه الآن، لاكتفيتُ ببضع كلمات: «هو صحفيٌ وكاتبٌ شجاع، كان مناهضاً للنظام السوري، ومدافعاً عن الحق في حياة أفضل للسوريين واللبنانيين على حدٍ سواء، ودفعَ حياته ثمناً لذلك». لكن رحلةً صغيرةً في الذاكرة، بحثاً عما كان يمكن لي قوله عن سمير قصير يومَ فارقَ الحياة، ستقودني إلى الكلمات التالية: «صحفيٌ لبناني متحالف مع تيار المستقبل، قاده حقده (الذي أتفهمه) على النظام السوري إلى التموضع في مكانٍ خاطئ. كان عليه أن يكون أكثر تعقلاً ووطنية، لكنه دفع حياته ثمناً لخياراته الخاطئة».


بين التوصيفين أحد عشر عاماً، ومئات آلاف الضحايا في سوريا ولبنان. وإذا كان التوصيفُ الأحدث يبدو اليوم بداهةً لا تقبل النقاش، والتوصيفُ القديم يبدو محض هراءٍ لتبرير جرائم متسلسلة ومستمرة حتى هذه اللحظة، فإن وصفَ الأول بأنه بداهة، والثاني بأنه هراء، لا ينهي المسألة، ولا يجعلها واضحةً على الإطلاق.


سيكون مفهوماً أن يقوم أنصار النظام السوري بتبرير قتل سمير قصير وغيره، ثم سيكون مفهوماً أن يعملوا على التملص من المسؤولية واتهام غيرهم بها، مع مواصلة الشماتة المعلنة التي لم تكن لتخطئها عين. لكن ما يستعصي على الفهم دون تحليلٍ عميق، هو كيف يتخذ من هم مثلي مواقف كتلك، ولماذا يتخذونها؟


سيكون مفيداً على طريق البحث عن إجابة، التذكير بتوصيفٍ ثالثٍ لسمير قصير، وهو توصيف أنصار النظام السوري المخلصين المُتماهين مع خطابه: «سمير قصير صحفي لبناني مأجور، كان يحرض على سوريا وحزب الله، ويتمنى أن تغزو الدبابات الأميركية دمشق، وقد قتَلَه مشغلوه في النهاية لاتهام سوريا بقتله كما فعلوا مع رفيق الحريري، فليذهب إلى الجحيم».


التوصيف الأخير هو خطاب السلطة المباشر والواضح، هو رواية النظام السوري الدائمة حتى اليوم عن كل جريمةٍ يرتكبها، التي تقوم على تبريرِ القتل لإلغاء التعاطف، ثم اتهام الآخرين لإلغاء المسؤولية. لكن التدقيق للبحث عن فوارق بين هذا التوصيف، وتوصيفي القديم أعلاه، يقود إلى أنه ليس ثمة فارقٌ جدي بينهما، فالخطابان ينتهيان إلى محاولة إلغاء التعاطف، وتجهيل المسؤولية. غير أن الخطاب الذي كنت أقوله أنا ومن هم مثلي قبل أحد عشر عاماً، أكثر خطورةً، لأنه يدعي التطهر والعقلانية والموضوعية.


لا يسعني الحديث هنا عن آخرين، لكنني لم أكن من أنصار الأسدية على ما كنت أظن وأعتقد، بل كنت أعرف حجم إجرام نظام الأسد في سوريا ولبنان، غير أنني كنت مع المقاومة، ومناهضاً لإٍسرائيل، وكنت أرى في قوى 14 آذار عملاء للغرب، وكنت أرى في كل من يحرض على النظام السوري داعيةً لتدمير سوريا على غرار العراق، متجاهلاً أن للآخرين أحلاماً وآمالاً، وحقوقاً، والحقوق هي كل المسألة في النهاية.


خلاصة القول إنني كنت نصيراً مخلصاً للأسدية من حيث لا أعرف، وكان جذر مواقفي هو الاستهتارُ المثيرُ للاشمئزاز بقيمة الحياة البشرية، في مقابل الاحتفاء بالمقولات الكبرى والشعارات الكبرى والنظريات الكبرى.


ما هو بديهيٌ إذن، أنه لا يجوز تبرير القتل والطغيان تحت أي ذريعة، أما الهراء فهو البحث عن ذرائع ونظرياتٍ لتبرير قتل كاتبٍ صحفي، ثم البحث عن ذرائع ونظريات أخرى لنفي مسؤوليتنا عن موته. لكن المفجع أن كثيرين، كثيرين في كل المواقع والتيارات، يواصلون السلوك نفسه، بما في ذلك المعسكر الذي يدعي مناهضته للنظام السوري.


يبدو الاعترافُ ضرورياً اليوم بالنسبة لي، هو ضروريٌ لأن هناك حاجةً لتصفية الحساب مع النفس قبل تصفية الحساب مع الآخرين، وهو ضروريٌ كي أعرف الخطايا فلا أكررها، ربما بهذه الطريقة لا يكون الإحباط قدراً.


اليوم في الذكرى الحادية عشرة لاستشهاد سمير قصير، ينبغي لي أن أقول لأصدقائه وأحبائه وعائلته، إنني كنت ممن برروا تلك الجريمة لأنني اعتقدتُ أن سمير يمثل تياراً سوف يقود بلادي إلى الدمار، والحقيقة أن ما قاد بلادي إلى الدمار، هو بالضبط هذا السلوك التبريري المتواطئ، ذلك أن أنماط التفكير التي قادت إلى تهيئة أجواء تسمحُ بقتل سمير، هي الأنماط نفسها التي قادت إلى أجواء تسمح اليوم بتدمير سوريا كلها على رؤوس أهلها، والأنماط نفسها التي تمهد الأجواء لاستمرار الحرب التي بدأها النظام السوري، دون أن يستطيع أحدٌ التكهن بمآلاتها.

الوسوم

التعليقات

تابعنا على   +