أشكال ألوان| تحية لنهضة الإصلاحات الدينية

أشكال ألوان| تحية لنهضة الإصلاحات الدينية

أشد مايحتاجه دين عظيم كالإسلام اليوم، هو تحريره من كهنوت قريش وكهنوت آل البيت. من سلطات الاستبداد والتخلف المتوارثة المتمثلة في صكوك السنة وصكوك الشيعة. من طامة الفقهاء الذين احتكروا التفسير واستسهلوا الفتاوى الطغيانية والتكفيرية، متجاوزين مضامين القرآن في الحرية والتسامح والعدالة وعدم استعباد البشر للبشر.


والأهم من هذا كله هو وضع حدٍ حاسمٍ للاستغلال السياسي للدين. ذلك أن المسألة ليست الانتماء للدين أو عدم الانتماء، وإنما كيف يمكن تخليص الدين من شوائبه الفقهية التي حولته إلى أداة دموية ومتخلفة وضد سنن الله في التطور. فضلاً عن ادعاء ذلك الموروث الفقهي باحتكار الحقيقة، ورفض عظمة تحولات كل الكليات والجزئيات من حولنا، والتلذذ جراء عجزنا الرهيب في التفاعل مع العالم بالنظرة له ككفر وإيمان. وكأن هذا هو الشيء الوحيد الذي طلبه الدين منا، وبالتالي علينا الاكتفاء به كما حثنا الفقه الذي تم إنتاجه في القرون الغابرة، وحسب ظروفه التاريخية الخصوصية، وخلاص.


ولعل المأزق الفادح الأكبر، هو تناسي حرية العقيدة، وأن الإيمان أو الكفر لاعلاقة لهما بتطور أو تخلف الدول والمجتمعات!


وحتى لو أننا جعلنا الناس يشبهوننا بالقوة، فماذا سيفيد ذلك وقد بالغنا في عاطفتنا الدينية المأزومة، لأن القرآن نفسه لا يلغي حق الاختلاف. وبدلاً من أن نفكر كيف نصون التعايش والسلم الوطني والإنساني، رغم الاختلافات الدينية أو المذهبية، استمرينا في دوامة ذلك المأزق من دون أدنى تبصر وتفكر، ولم ننقذ مجتمعاتنا من التطرف وتبعاته، كما لم ننجز للإنسانية ما يجعلها تعتز بوعينا للذات وللآخر.


على هذا المنوال أحترمُ من ينتقد الفقه الإسلامي الذي حصر المسلمين في تصورات محددة وضعتهم داخل إطارٍ جامد، وجعل الإسلام يبدو وكأنه يعادي المستقبل والسلام والحريات والتطور. كذلك أحترمُ من صدم بهذا الفقه المكبل والمعيق، حتى لو اقتنع أن الإسلام بسببه صار لا يلبي وعيه الإنساني الحديث، وخلُص إلى أنه سيغادره مثلاً. ذلك أنه «من وجهة نظري» أفضلُ من المنافق الذي سكت عن ترشيد الخطأ وتصويب المسار، خشيةَ وصمه بالكفر، وترهيبه بمقولة ما أنزلها الله في كتابه المبين: «من بدل دينه فاقتلوه»، بينما لا يمكن للرسول الكريم أن يأتي بقول يخالف تعاليم القرآن التي تؤكد جميعها على أنّ عظمة الإسلام تكمن في أنه دين عقل واختيار حر ليس فيه أي إكراه أو إجبار.


نعم... علينا ألّا نتهرب من الإصلاحات الدينية بعد الآن، فلقد تم تكريس الخديعة عبر فقهاء السلطة الذين ربطوا كل خلاف أو شأن سياسي بمنحه صبغة دينية كي يتم القبول به، بل جعلوا الأمر وسيلة لنشر العقيدة مع أن القرآن الكريم عادل وواضح وعقلاني وهو ينزّه غايات العقيدة عن وسائلها المنحرفة.


ولعل الإبداع الفقهي المطلوب يتلخّصُ في أهمية التعامل مع تعقيدات ومشاكل مجتمعاتنا، من خلال استيعابنا للتحولات والمستجدات، وبالتأكيد لا يمكن إسقاط رؤى الماضي على القرن الواحد والعشرين كما يريد سدنة الفقه المغلق، بل ينبغي بروز فقه جديد ناضج يستوعب الفوارق الزمنية والمكانية الكبرى، ويبدع في إنتاج حلول مناسبة لكافة المشكلات الفقهية والمجتمعية والسلطوية المتراكمة.


ومن هذا المنطلق، لي أن أحترم بشكلٍ خاص مافعلته حركة النهضة التونسية، التي تمثل الإخوان المسلمين، كونها لم تُرد أن تكون منافقة تُظهر غير ما تُبطن، أو تكفر بما أقرّه الله للبشر في حرية اختياراتهم الدينية، إضافة إلى وجوب تفاعلهم الوطني والإنساني لإنجاز قيم الحق والخير والجمال من مواقعهم العقدية والسياسية المختلفة. ولذلك كانت شُجاعةً في فصلها الديني عن السياسي، لأن السياسة والتنافس على السلطة شأنٌ دنيوي.


ما بالكم وأن الإسلام تشظى مذهبيًا منذ قرون ولم يستطع لملمة الوعي لتستمر الاحتكارات والترهيبات والمفاسد باسم الدين؛ فيما كل سلطة مذهبية تريد أن يصبح المجتمع جزءً منها وتتعامل مع الدولة كحق اختصه الله لأتباعها. وهكذا كان الاستبداد يترسخ إضافة إلى مآسي الحروب والانقسامات والكراهيات الفادحة طبعًا.


هذا التحول عمومًا في وعي الإسلامويين له دلالات واسعة. فـ«ليس من حل سوى دولة علمانية، تقطع ادعاءات الخلط العجيب بين حياة الناس وعقائدهم».


ولذلك نزجيها تحية من القلب للتحول إياه، والذي إن صدقَ سيكون الخطوة الأولى في الإصلاحات الدينية الملّحة التي تحتاجها المنطقة.


والشاهد أن العالم كان يتقدم ويبدع رغم كل أخطائه، لينجز تطورات علمية ومعرفية هامة وجليلة وفارقة في الجوانب السياسية والاجتماعية والاقتصادية والتنموية والطبية والفكرية إلخ، بينما كنا نغرق أكثر من اللازم في أوهامنا العصبية القبلية والسلالية والمذهبية الهوجاء وفوق ذلك نصبغها ونبررها بالدين. ثم حين انفتحنا على العالم، لم نستوعب أننا جزء منه وإنما احتقرناه لأنه ليس منا.


الخلاصة المريرة ونحن على ضوء أزمات الفقه الإسلامي بشقيه السني والشيعي، أننا منذ قرون لم ننتقد اختلالنا الرهيب الذي تركنا في الماضي، بل لم نتصالح مع أنفسنا من الداخل ونقرَّ بضرورة أن نتصالح مع العصر، وننفتح على الآخرين ونطرح إضافات حقيقية للمستقبل والحداثة بدلاً من اجترار أسوأ ما في القدامة. فهل هذه هي الفضيلة؟ وهل هذا هو التقوى؟ ثم من أعطانا الحق لممارسة كل هذا العنف والإقصاء ضد من ليسوا معنا!


وكيف قلنا إننا نعاني من قمع واضطهاد أو فقر أو تهميش، إلا أننا بمجرد ما نصل للسلطة كنا نمارس تلك القيم على الآخرين بمنتهى الانفصام والاستسهال؟ من هنا ينبغي التنافس عبر البرامج السياسية وليس اليقينيات الواهمة. فبسبب ذلك الوعي المكبل بالأغلال استمرت تناقضاتنا اليومية كعرب أو كمسلمين، فيما استمرينا ندفن رؤوسنا في الرمل ونحملها الدين لنستريح!


على أنّ أصل الاختلالات يكمن في تصورنا القاصر بأن العقيدة لا تتحقق للفرد، مالم يكن على شاكلتنا، وبالتالي لا يكون أي مجتمعٍ ناجحاً إلا إذا حددنا له طريقه العقائدي حسب رؤيتنا نحن التي نريد فرضها.


والحال أن المسألة ليست كفراً وإيماناً فقط، وكذلك ليست اصطفاءً دينياً أو مذهبياً على الآخرين، وإلا فاللعنة عليهم! المسألة تنمية، وبناء الإنسان كذات حرة ومكرمة، ومن دونها لن يكون هناك مجتمع مبدع ودولة تستلهم الأبعاد الإسلامية الشوروية، وتنظم الصراع على السلطة بدستور متفق عليه بحسب صيغة الديمقراطية التي هي أهم تجليات التاريخ الإنساني، وجوهر الشورى بمفهومها الواسع. بمقابل أن القاسم المشترك بين الناس هي الحقوق والواجبات المتساوية، وفق قوانين عادلة لدولة لاتمنح تمييزاً لفئة ضد أخرى.


تلك خطوة جبارة للإخوان في تونس، كي لا يتم إفساد الدين والسياسة معًا.

الوسوم

التعليقات

تابعنا على   +