أشكال ألوان| أبو زهير اليكسييفيتش: موتٌ لا يليق بالفناء

أشكال ألوان| أبو زهير اليكسييفيتش: موتٌ لا يليق بالفناء

برجولةٍ موجوعةٍ جاء صوته على «الفايبر»: مزِّق كل الأوراق التي بحوزتك، لا أريد أن أكتب عن الموت مرة أخرى، عدلتُ عن رأيي، لم أعد أرغب بكتابة مذكراتي أو «الرواية» كما تسمّيها أنت، والتي اقنعتني بكتابتها، أرجو تنفيذ ما طلبته منك.


أبو زهير جنديٌ لا يجيد حمل السلاح، غادر إلى تركيا في نهاية 2014، بعد سنتين من العمل مع مجموعات الدفاع المدني غادر الغوطة، التقيته عن طريق الصدفة، بينما كان يعدُّ نفسه للتهريب إلى تركيا، حينها سهرنا طويلاً في بيت صديق، وختمَ لقاءنا بإعطائي قُصاصات كان يدوّن عليها حكايات «الهلاك الجماعي».


لقاءاتٌ ثلاثةٌ جمعتنا، ورحل دون أن أعرف اسمه، حينها حرص صاحب البيت على مناداته «أبو زهير»، نوعٌ من الحذر المعتاد في مثل تلك الظروف.


لاحقاً عرفت أنه معلم ابتدائي، ترك التدريس والتحق بمجموعات أهلية لإنقاذ الناس، وعلى أثر ذلك أرسلَ إلى خطيبته الخاتم واعتذاراً مذيّلاً بجملة «لم يعد للحب... وقت».


بعد أيام من اتصاله الأخير أرسل لي عبارة بين قوسين: «لا أريد أن أكتب عن الحرب، أريد أن أحيا وسط فلسفة الاختفاء بدلاً من فلسفة الحياة».


ذهولي بلغة أبو زهير غير المعتادة جعلني أظن أنه بدأ كتابة الرواية بمفرده، الرواية التي اتفقنا على صياغتها معاً، كمغامرة لكلينا باقتحام عالم الكتابة الروائية، أو على الأقل كتابة نصٍ لائقٍ يوثق جرحنا، كحدٍ أدنى، رغم أن كلاً منا لم يلج تلك التجربة من قبل، إلا حماساً مُلفتاً انتابنا حينها. تركَ قصاصات يومياته معي، واتفقنا على تنفيذ المشروع بالمراسلة.


اختلفنا ذات مرة على عبارة «رغم صوت المدفعية المجنون كانت وجوه الأطفال تتألق ببهاء ورعب تحت القصف»، اعترض «أبو زهير» على كلمة بهاء، وألحّيتُ أنا على ضرورتها، وعلى إثر ذلك، انقطعت المراسلة لأيام.


اللافت في العناوين التي يقترحها أبو زهير النزوع الحارق للبوح، أحد العناوين كان «موت لا يليق بالفناء»، توقفت عند ذلك طويلاً، صدمني ذلك الشغف في الارتقاء بالألم إلى منتهاه الحسي، وصدمني التركيب اللغوي الذي لم ألحَظه في يومياته التي بحوزتي.


«من المبكر البحث عن عنوان للرواية». قلت لأبي زهير: الأفضل أن نستمر في ترتيب وصياغة المذكرات أولاً، ولا أخفيك أن اقتراحاتك للعناوين زادت من حماسي.


مضى «أبو زهير» في بلد اللجوء يبحث عن كتب ترشدنا إلى كتابة الرواية، وصار يمدُّني بالعناوين، ولفترة أخذتنا القراءة أكثر من الصياغة.


 فقد أبو زهير رغبته في كتابة يوميات الغوطة، في لحظة يأس.


رسائل عدة أرسلتها محرضاً إياه على الاستمرار، لكن دون جدوى. مضت أشهر دون أي ردٍ منه. فقدت الاتصال معه، حسابه على الفايسبوك مغلق، حاولت معرفة أخباره وأين حط به الزمن، دون أن أصل لأي خيط يربطني به.


ظل أمل الاتصال مع أبي زهير واستكمال الرواية قائماً، إلى أن أتصل بي فتىً قادم من بيروت وأعطاني رواية «فتيان الزنك» للكاتبة الروسية «سيفيتلانا اليكسييفيتش» التي حازت على جائزة نوبل العام الفائت، مكتوب عليها إهداء مذيّل بعبارة «أبو زهير..... مع الود».


أين أبو زهير؟ سألت الفتى بتعطش.


ردّ كهارب لم يسعفه ذكاؤه: منذ أكثر من شهرين ذهب إلى اليونان عن طريق البحر وأعتقد... أعتقد أنه غرق مع الغارقين.


تعتقد!؟


هكذا جاءت الأخبار عن القارب الذي أقلهم إلى الضفة الأخرى، وبعدها لم نعرف عنه شيئاً، بحثنا كثيراً ولم نصل لأي ضوء يُبعد اعتقادنا.


لأيام مضت لم أستطع مس رواية «فتيان الزنك»، لكن الإهداء ظل يهس في أذني كأصوات المآتم.


«صديقي العزيز:


بعدما تقرأ هذه الرواية التي تسرد مذكرات الجنود الروس في حرب أفغانستان بعد عودتهم، وتُبدّل الأسماء بأسماء سورية، والأماكن بأماكن سورية، ستلمح حزني بين السطور، لأنها تتكلم عنا، وستدرك أنه لا حاجة لكتابة روايتنا، فهناك من يروي فناءنا البشري الأخرق على الدوام، أما نحن لوازم الحبكة الواقعية لم يعد سانحاً لأرواحنا إلا الاختفاء».

الوسوم

التعليقات

تابعنا على   +