أشكال ألوان| لجهاتِ أرض الشّهوة

أشكال ألوان| لجهاتِ أرض الشّهوة

نلوّح لحزنهم من بعيد، للذين يفيئونَ من جوعٍ بلا ذنبٍ إلى جوعٍ بأجر، لِمَن على رغمهم صُوِّموا دهراً باسم الحصار، هم الخاوون جوفاً من القِدَم، هم حِمص التي جاعت فعصبت بطنها، وقالت لها: قرقعي... فللحريّة علينا أن نجوع ونعرى، مدن التّاريخ لا يقتلها الجّوع والحصار، يمحوها البارود. ماتت قتلاً، ولم تُسلم مفاتيحها حيّةً.


هي هذي بلادنا التي صُمنا على أقراحها، وكان سحورنا وفطورنا فيها الحشيش والجراد ولحم القطط ودمع الفجيعة. أكلنا لأجلِك القطط أيّتها البلاد القاسية، وشربنا دمنا حتّى ضاقت عين الأرض، فسفحناه فوقها، وما نهشنا لحمكِ، عارٌ أن ينهش الوِلدَانُ قلبَ أمّهم يا بلادنا، يا أمّ الجوعى وأمّ المتكرّشين، يا أمّ القاتل والمقتول، الجلّاد والضّحيّة، يا أمّ الأخضر والأحمر والأسود، يا أمّ الظُّلم ويا أمّ المظلومين. أنتِ نحنُ يا أرض المَقتلة، تثليماتُ جرحك، نحنُ عواء الذِّئاب في بواديكِ، ونزيبُ الظّباءِ في فلواتكِ، نحن القاصفون والأطفال تحت الرّكام، نحن حواضركُ الباديةُ، وسواحلك العالية، نحن الخائفون من الحُرّيّة، والتّوّاقون انعتاقةَ النّخلة، والحاملون زيتونةً والمُشهرون سيفاً، نحن القلب المُوجع من جور العين العميّة، والرّأس المثلوم بسِنِّ الأذيّة، وأنتِ نحنُ يا بلاد الخائف القريب، والنّازح البعيد، نحن معونة الّلاجئ، والحاكم السارق السالب.


الباقُون شرقنا، يُلوّحون لشوقنا من بعيد، من هناك، من شرق القلبِ الأغنيّة، الشَّرقُ قلوبٌ، أغانٍ لا تشبيبَ فيها من فرطِ الفراق، بلادٌ ذهبٌ أسود وأبيض وقمحٌ أصفر، يقتلها الصّدأ مُدىً وبنادق، وملافعُ الأمّهات ملوِّحاتٍ ترانا من بلادٍ نحمل فيها أرقاماً سالبةً، ولا نراها، نتوق الصّوت منها فنسمعه نحيباً، موالكنّ النّعي يا أمّهاتنا الغائراتِ مآقٍ، والمبحوحاتِ شدواً ببلاد الأَسِرّة المَقابر، لِمَ روَّيتنا حُزنكَ يا فرات الأساطير المَلاحم، ولمَ لمْ يأكُلْكَ المِلحُ أيّها النّهرُ البحر، لِمَ لم يأكلك المِلح ونحنُ عطاشى بقربكِ نشربُ صبرنا ونذبُلُ، ومنّا صباياك، كيف ترضى لنفسك أن تذبل صباياكَ الـ كُنّ يحملن إليكَ على رؤوسهنّ الخوابي، المتجرّداتِ لناظريك أوان الصّيف أيّها البدويُّ الفحلُ، المطوّفاتِ لخِضرِك شموعَ العِتاب، يا خاطف الخلّان الصّيد الأجاويد، هنَّ الـ مازجاتك ريقاً ريقاً والظاميات إليك ونّةً ونّة، المرتحلات عنّا وعنك، يا نحنُ البلادُ النّاس المزوَّجون خطيفةً للطّغاة، يا بلاداً وميقةٌ دِماها للغزاة.


الحالمون شمالاً، يحصدون المدافع بالفستق العاشوريّ الضَّحكان من هولِ الخديعة، للضِيَاعِ المحروماتِ حليبَ نياقِ الشَّرق، ومواويل الجّبل، للمُحتمين بزيتونها قادمين من مِخلب الدِّين الكذبةِ، يحملنا دخانُ المصانع المهرّباتِ كطرحةَ عروسٍ وزغرودة، للممنوعين عنها حفظاً للنّعش، والهاربين منها تطردهم لِحية، ودينٌ آخرُ كَذِبٌ، نحن على دين ردّتكم، والحرّيّة دين الضحيّة من يوم نيرونَ إلى مقصلة الكنيسة إلى يومنا هذا إلى أن يُصبح المُستقبلُ تاريخاً يسطره العاطلون عن العمل.


المتروكون جنوباً، يخبزون الصّبح برملِ الصّحاري، ليملأوا عين الهجير، الضائعون خلف قصور الملكِ الغوايةِ محمولةً على عُملةٍ انجليزيّة، وهم أحفادُ الدولةِ المرأةِ الوثيرةِ المُسماةِ شاماً، الصِّبيةُ يتنازع أنفسَهم أسمال عيدٍ سمعوا عنه في مرويّات الخوالي، وفهموه بسمةً وقطعة سكّر، للمتروكات جنوبَ جنوبِنا ينسجن الضّحكاتِ بخيطٍ أجنبيّة، المُتأوّهات كريحٍ شرقيّة، كلّ الجراح شرقيّةٌ بندى الجنوب، يرسلها السّجان إلى الجنّازِ الدّفانِ إلى الشاعرِ الرّاثي إلى العاشقِ المُفارق المُتلف المُوادع، والموّال وداعٌ شرقيٌّ فات آخر برمكيٍّ صدّعت قلبَه القِتْلَة:


ركيت براس كوكب ودّعوني


غريب بكل ديرة ودعوني


جِديت وصاب راس الودّ عيني


عِميت وما شفت ظعن الحبابْ


للحبيسين غرباً بين العصائب، والنّاصرينَ المُحاربينَ الجهاتِ الأربع، هل حرّرت غصّةُ سيف الدّولة شاعرها!، وهل ثأرت راياتُ السائرين من جِوارِ نجدٍ إلى البصرة لدماء خليفتها؟ نحملكم غصّةً غصّةً بهدبٍ تَجافاهُ الوسن، ونُسكنكم حُلماً حُلماً عطّله جبروت الأكاسرة، نحمل جوفاً بثورتين، واحدةٌ لنا، وأُخرى عنكم، نحن منكم كِليةٌ تعمل مقام اثنتين، وأنتم منّا رئةٌ تتنفّس ما ضاقَ عن أخرى أتلفتها سموم ريح المنون، فتنفسينا ريحاناً غربيّاً يوزّع البحر واحاتٍ للنّوارس.


للبلاد المتكوّرة حدّ انعدامِ الجهات، نحمل سبحةَ شوقٍ ألفيّة، نلفّحُ حبّاتِها وجدَ القصيدة، نُرضِعها سناة النّجوم على خدّ العذارى، نراودها عن نفسها فتمتنعُ، لماذا تضيقين بنا شبقاً، وقد اغتصبتك راياتُ الأجانب! سِعينا يا أرضَ الشّهوةِ عُشّاقاً، فقد ضاقت علينا فراشُ الأجنبيّة.

الوسوم

التعليقات

تابعنا على   +