أشكال ألوان| يومَ مات الرئيس

أشكال ألوان| يومَ مات الرئيس

كنتُ وحيدًا في الغرفة ظهرَ ذلك اليوم، صعدَ أبواي إلى الطابقِ الُعلويّ، وكانَ أشقائي يتوزعون خارجَ المنزل. كانت الفرصةُ مؤاتيةً تمامًا لكسرِ الحظرِ المفروضِ عليّ (وعلى سواي من أطفال ومراهقي السويداء وسوريا في الحقيقة)، ها أنذا وحيدٌ البيت. أدرتُ التلفزيونَ بعد التأكّدِ من خُلوِّ المحيطِ من أيّ «وصيّ»، علّي أجدُ ما يسدُّ الرمقَ على القناة التلفزيونية الإسرائيلية الثانية. لم تكن الصحونُ اللاقطةُ منتشرةً على أسطح البيوتِ حينذاك، كانَ متوسّطو الدخل (الذين كنا منهم) ينعمونَ بهوائياتٍ على أسطح بيوتهم، وفي حالاتٍ متقدّمة كان لديهم جهازٌ صغير لتقوية بثّ القنوات التلفزيونيّة التي تتيحها هذه الهوائيات. على ذلك، فقد كانت مسلسلات مثل «إستريليتّا» أو «خوان الغول» وما يشابهها مما كان يُعرضُ على المؤسسة اللبنانية للإرسال LBC هي السبيل الوحيد لاقتناص قبلةٍ فارّةٍ من مسلسلٍ هنا أو هناك. لم يكن لدينا، أسوةً بمراهقي مناطق شمال سوريا، ترف الفرجةِ على المحطات التلفزيونية التركية التي كان شيءٌ منها يختصّ بأفلام البورنو، لكننا وبحكمِ «جنوبيّتِنا» كنا نتمتع بمتابعةِ قنوات التلفزيون الخاصة «بالعدوّ الصهيونيّ»، لسهولةِ التقاطِ إشارتِها.


أما القناةُ الإسرائيليةُ الثانية، فلأنّها لم تكن ناطقةً باللغة العربية، بالتالي، فقد كُوِّنت عنها في نفسي صورة القناة التي يُمكنُ أن يجدَ عليها المرءُ ما يحتاجُ من المُحرّمات و«قلّة الشرف»، إذ لا يُمكنُ أن يجدَ الأشياءَ نفسها على قناةٍ تنطقُ باللغةِ العربيّة! لا مكان «لقلّة الشرف» في اللغة العربية!


فتحتُ التلفزيون، ولم أكد أصلُ إلى القناةِ المطلوبة، حتى ظهرت صور حافظِ الأسد تُرافقها تعليقات عبرية غير مفهومة. صورٌ مختلفة، لم تكن مفاجئةً تمامًا، إذ من المنطقيّ أنّ الإسرائيليينَ حريصون على متابعةِ «أعدائهم»، لا سيّما أولئكَ الذينَ يتربّصونَ بهم على التخوم، منتظرينَ اللحظةَ المناسبة للانقضاضِ عليهم، ممتلكينَ «زمامَ المبادرة»، حيثُ كانوا قد امتلكوهُ قبلًا في العام 1973! لم أكن أشعرُ بنشوةٍ آنذاك، مثل تلك التي تصيبُنا حينَ يتحدّثُ أعداؤنا عن رؤسائنا، كان يُمكنُ أن أشعرَ بالنشوة في وقتٍ آخر، حينَ يكونُ البيتُ مكتظاً بالأوصياء، ولا يُمكنُ الحصولُ على قبلةٍ أو فيلم بورنو، أما وأنا وحيدٌ، فقد كانت صورُ الرجلِ أشبهَ بالعقوبة. ألا يُمكنُ لك أن تشغلَ الأعداء في وقتٍ آخر؟!


لكنّ انتظاري طالَ، ولم تزل صور حافظ الأسد. شعرتُ بسأمِ الانتظار، مصحوبًا هذه المرّة بريبة بدأت تتفشّى فيَّ جرّاء احتلالهِ الفضاء التلفزيونيّ العدوّ! فهل قمنا بحربٍ من حيثُ لا نعلم؟ هل بثّ الراديو أغنية «خبطة قدمكن عالأرض هدّارة»؟! كانوا يبثّونَ ما يُشبهُ فيلمًا وثائقيًا طويلًا عنه. فانتقلتُ إلى القناةِ الأولى في التلفزيون السوريّ ولكنني لم أجد ما يلفتُ الانتباه، كانت تبثّ أفلاماً كرتونية كالعادة. عُدتُ إلى قناةِ الأعداء فلم يتغيرِ الأمر. صور وفيديوهات كثيرة موضوعُها حافظ الأسد. لا شيءَ آخر، ولا أعرفُ اللغةَ العبريةَ لاكتشافِ ما يحدث. حسنًا، سيكونُ الراديو ملاذي، إنها الـ BBC التي لا تكذب. هيئة الإذاعة البريطانيّة التي احتلّت حيّزاً من وعي السوريين على مدى عقود. وهناكَ وقعت الصدمة، هيئة الإذاعة البريطانية تأتي بالخبر اليقين:


لقد مات الرئيس حافظ الأسد!


ليست حربًا إذن، وليس ثمة جبهات، إنهُ الموت، حافظ الأسد يموت. نسيتُ في تلكَ اللحظة أن أنزعجَ على اختيارِهِ توقيتًا خاطئًا للوفاة، حيث كانَ يُمكنُ لهُ أن يؤجلها لساعتين أو ثلاث، علّي أحظى بثديٍ يقفزُ من فيلمٍ أجنبيّ تبثّهُ القناةُ الإسرائيلية، ثمّ ليمُت بعدَ أن يعودَ أبواي. حمّالة ثديٍ على الأقل! أفكّرُ اليومَ أنني منذُ ذلكَ الوقت، لديّ مشكلةٌ حقيقية في «ترتيبِ الأولويات»!


لقد ماتَ حافظ الأسد. الرجلُ الذي اشتركَ مع آخرين، مثل الملك الحسين بن طلال، وياسر عرفات وصدّام حسين، في منحي شعورًا أنهم لا يُمكنُ أن يموتوا. لكنهُ مات، التحقَ بملك الأردن الذي سبقهُ وكسرَ يقيني قبل ذلك بعامٍ وأشهر.


مضى على ذلكَ اليوم ستة عشر عامًا، انتبهَ السوريونَ خلالها أنّ رئيسهم لم يمُت تمامًا. استغرقهم ذلك أحد عشر عامًا، لكنّهم في النهايةِ انتبهوا أنّهُ لم يمُت. كانَ ذلكَ في آذار 2011، الشهر الذي لا يُمكنُ لأحدٍ ممن والى الأسد أو عاداه، أن ينساه. الشهرُ الذي استنفرَ الناسُ فيهِ، وأدركوا حجمَ كارثةِ أن يحكمهم رجلٌ ميتٌ. فصرخوا، وكسروا تماثيلهُ، متسلحينَ برغبةِ الحياة. برغبة التخلّص من الماضي. من الموتى. فعلى الميتِ أن يموتَ بشكلٍ فعليّ لنحيا.


في جلسةِ مجلس الشعب الاستثنائية التي أعلنَ خلالها عبد القادر قدورة، رئيس المجلس آنذاك، وفاةَ الرئيس، طلبَ من الأعضاء، في مفارقةٍ مضحكة، الوقوف لـ«دقائق صمت» حداداً على روح «القائد الخالد». دقائق صمت، إذ لا يُعقلُ أن يحظى ميتٌ كحافظ الأسد بدقيقةٍ واحدةٍ أسوةً بكل الموتى في العالم. إنهُ حافظ الأسد!


دقائقُ صمتِ السوريين انتهت، رغم كلّ ما حدثَ لهم، فقد انتهت دقائقُ صمتهم. ولأنّ الميتَ هو حافظ الأسد لا سواه، والدفن هو دفن حافظ الأسد لا سواه، فقد كانت الكلفةُ باهظةً إلى هذا الحدّ الجنوني.


لقد كلّف الرئيسُ السوريين واللبنانيين والعراقيين والفلسطينيين والجزائريين و و و... لقد كلّفهم ملايينَ الضحايا، خرابًا عميمًا كلّفهم. لكنّ دقائق الصمت انتهت.


ولم يكتفِ الناسُ بدفنِ الرجل، بل ولعنوا روحهُ أيضًا.

الوسوم

التعليقات

تابعنا على   +