أشكال ألوان| اللغةُ المدينة

أشكال ألوان| اللغةُ المدينة

كلنا حين يغادر مكانه يتعلق بذاكرة تأبى مغادرته، فالانتماء لا يجد مكاناً بين الأرصفة وشقوق الأزقة، الانتماء يُعلَّقُ على الوجوه ويتجه دوماً نحو اللغة.


عندما تمرُّ في شوارع كيليس تُدهَش من اللغة العربية التي اعتلت معظم المحال، بالأسماء نفسها التي افتقدتها في مدينتك، من فول «النكمة» حتى «اللقمة الطيبة». يفرضُ السوريون عاداتهم على الطرقات، تجد بسطات الخضار وتسمع الصياح القريب إلى قلبك باللهجة الحلبية، والأصواتُ المألوفة تجد طريقها إلى مسامعك، والأماكن بدأت تنزاح تاريخياً إلى أسماءٍ جديدة، أسماءٍ أضفناها نحن النازحون، من حديقة المدفع إلى سوق السمك إلى حديقة السوريين. ولعل المدينة ستنسى بعد برهة من الزمن تاريخها، فتجد أن «أكرم شاتين» أو «عدنان مندريس» نازحون هربوا من الحرب الدائرة في حلب، واستوطنت أسماؤهم على لافتات الشوارع في كيليس.


قبل سنوات، وفي «مخيم حندرات» في حلب، كنتُ أستغربُ كيف انقسمت المناطق هناك إلى حارة التراشحة والغزلاوية وغيرها من التسميات المنسوبة إلى قرة ومدنٍ فلسطينية، وكيف أخذت الشوارع تنزاح بمسمياتها إلى حيث الذاكرة الفلسطينية، إلى اللهجة واللكنة والحفاظ على الأكلات الشعبية وطريقة اللباس.


«اللغة عقل الأمة»، كانت تلك الجملة التي أوقفت وقتها ما كان يعتمل في داخلي من حنق على الأمكنة المنحازة لغوياً إلى ساكنيها، «نحن لن نخرج من ذاكرة المدينة»، قلتُ في نفسي.


عندما تدخلُ إلى كيليس، هناك شخصيتان لا بد أن يقف عندهما كل سوريٍ جديد في هذه المنطقة. يونس الشاب الحريتاني، وهو من أوائل الذين دخلوا إلى هذه المدينة، يوحي لك بأنه مختار المدينة ويعرف كل السوريين هنا، يعرفُ عدد أطفالهم ومحالهم التجارية وأماكن عملهم، يعِدُكَ في مكانٍ ما ويأخذك من يدك ودون أن يسمع قصتك يوصلك إلى مقهىً قديم، يطلبُ لك كأساً من الشاي يضعه أمامك، ويعتذر إليك قائلاً إنه سيعود بعد نصف ساعة، لتكتشف بعدها أن هناك موعداً آخر وقصة أخرى قد أجلسها يونس في مقهى قريب آخر. هو لا يتركك أبداً، ولكنه دوماً مرتبطٌ بآلاف القصص، ضائعٌ بينها. يونس الشاب المليء بالطيبة، غالباً ما ينتهي بك المطاف لتنام في بيته وتتعرف على قصص كثيرة، ربما لن يفعل شيئاً مما قاله لك، ولكنك لا تستطيع لومه، فقط تستطيع أن تحبه.


لم نحمل من مدننا إلا هذه الحروف، وبعض القصص التي تدق باب الذاكرة بإلحاح، فتشعرنا بالراحة كمن يتنفس مدينته من جديد. لعل يونس كان يسترقُ من القادمين الجدد صوتاً لتاريخ يشبهه، ليبدو عادياً جداً وكأنه في شبه حياة.


تترك يونس ليلتقطك الدلّال أبو محمد، أو «أبو الدراويش» كما يحلو له أن يعرّف عن نفسه. يبدأ برسم الأحلام لك منذ اللحظة الأولى وأنت تسمعه يناديك على الهاتف «أهلين ابن أخوي»، وفي متاهة البحث عن عنوانه، تجدُ أخيراً محلاً للقطع المستعملة وقد أخذَ جزءاً منه وفصله ببقايا خيمةٍ قديمة. كرسيٌ واحدٌ وطاولةٌ صغيرة هي كل أثاث محله، وهناك دلّةٌ من القهوة المرّة. يبدأ حديثه دوماً عن كيفية صنعه للقهوة المرّة، وكيف يُجيد تحميصها ويأتي بها من حلب، فهنا في تركيا لا يوجد ما يملأ رأسه.


هذا الرجل المسن الذي يتكلم بدويةً توحي أنه من الريف الشرقي لمدينة حلب، بشعرٍ أشيب ووجه صغيرٍ مليء بالتجاعيد والحب وعينان غائرتان، لا يسألك عن سبب مجيئك ولا عن المدة التي ستقضيها هنا، هو يعرفُ أن هذه المدينة تبتلع زوارها:


«طلبك جاهز ابن أخوي، عندي بيت عربي فرنجي ثلاث غرف من بابو وأجارو رخيص، أني شنت تاركو بس ما يغلا عليك».


الأقدارُ جعلت من أبي الدراويش رفيقي لأيامٍ كثيرة، حتى بعد أن وجدت بيتاً ليس عن طريقه طبعاً كنتُ أزوره دائماً، لعل تلك اللهجة التي كان يطرق قلبي بها كانت كل ما أريد: «العقد شريعة المتعاقدين مو هيك دكتور؟»، أهزُّ رأسي بالإيجاب دوماً مع ابتسامةٍ خفيفة، أبو الدراويش لا يجيد الكتابة والقراءة ولا يجيد مهنة الدلّال، ولا يجيد صناعة القهوة المرّة ولا لفَّ سجائر القشق.


أبو محمد فلاحٌ كانت له أرض كبيرة في دير حافر، وكان يعمل بها وزوجته وأطفاله، وعندما دخل تنظيم الدولة لم تستطع أم الدراويش أن تبقى حبيسة البيت، ولم يستطع أبو الدراويش الإقلاع عن التدخين. جلدوه مرةً لأنه يدخن في بستانه، لم تحتمل أم الدراويش رؤية زوجها يئن، هذا هو الحب القديم الذي يعنونه أبو الدراويش بـ«العشرة».


حملَ أطفاله وزوجته وهربَ بهم إلى كيليس، ليجد نفسه دلالاً مستعيراً هذه الشخصية ربما من ذاكرةٍ لم تسعفه بتفاصيلها، لم يكن يعلم هذا الرجل أنه سيصبح علامةً فارقةً ونقطةً للطيبة في حياتنا الجديدة. تُعاندنا اللغة في هذا المكان، فيجيبني أبو الدراويش: «كيليس بيها شوية أتراك والباقي سوريين».

الوسوم

التعليقات

تابعنا على   +