أشكال ألوان| النقد الفني والأدبي.. قلق الوجود والعُصابية

أشكال ألوان| النقد الفني والأدبي.. قلق الوجود والعُصابية

يلعب الناقد في المجال الفنيّ والأدبيّ دوراً في تفسير العمل وتوضيح خصائصه وتقييمه؛ وبذلك، لا دور للناقد من دون العمل، ولا يكتسب العمل شرعيّته من دون مروره على منصة الناقد. إلاّ أنّ الهدف وراء النشاط النقديّ هو الاستجابة لقلقٍ وجوديٍّ وخوفٍ من الموت. الناقد بوصفه صاحب السّلطة الثقافيّة والمعرفيّة تعسّف في استخدام هذه الخبرة والمقومات وشرعن نفسه بنفسه، بامتلاكه الحقيقة الواحدة الكليّة. وهو على أساس هذه الحقيقة الّتي تصل للناس من خلال وسائل الإعلام، لا ينشر الوعي فقط، بل يثبت وجوده ودوره كناقد، وتصبح المادة الّتي يكتبها وعمله النقديّ مجرد أداة توصله لموقع سلطويّ أبويّ قادر على تقييم العمل الّذي أصبح تحت دائرة سلطته.


السّلطة الثقافيّة ما هي إلاّ وسيلة تحميه من إدراكه لمدى جاهزيته واستعداده للانهزام الوجوديّ أمام نفسه والآخر، إنّه يخاف الموت، يخاف السّقوط ويبحث عن الأمان في النشاط النقديّ. ضرورة انصياعه للصّانع الفنيّ حوّله لشخص قلق تقمّص دور الطّاغية ليثبت وجوده ويحارب الموت.


الناقد لا يكتفي بالمراقبة بل يوظف معرفته وثقافته في تقييم العمل، ويحق له، كونه يتمتع بالسّلطة الثّقافية، أن يشرعن العنف اللفظيّ، الإقصاء، المعاقبة، و«تمزيق» العمل الّذي يتوجّه بالكتابة عنه، حتّى ينتهي باتّهام العمل بالفشل. وما هذا الدور إلاّ محاولةٌ منه لإقصاء الصّانع الفنيّ عن شرعيّة الحضور والاعتراف، ومحاولة منه ليُذكّر بوجوده المهيمن على المعرفة الثقافيّة، الجماليّة، والفنيّة. محاولة التوجيه الّتي تأخذ منحى «التنظير» في كثير من الأحيان - وأقول هذه الكلمة بشيء من التهكم- هي عمليّة تطويع لفظيّ، وجوديّ، وإنتاجيّ للصّانع الفنيّ، للابن الّذي تجرأ على تجاوز سلطة العارف.


 فالناقد يرغب في خلق مجتمع انضباطيّ، تتوازن فيه القوى، وهذا التوازن بالنسبة له مدفوع بأنانيته، ويتحقق من خلال امتلاكه، وحده، السّلطة الكليّة الثقافيّة والمعرفيّة وإجهاض أيّ وجود آخر، ويصبح الموقف النقديّ محكوماً بمنطق «لا»، محكوماً بمنطق الرفض والاستهزاء.


الحرب بين الناقد والصّانع حرب لامرئيّة، حرب وجود، كلّ محاولة جديدة هي انتهاك وتهديد وانسلاخ وتعالٍ. التجارب قاتلة والخبرة العمليّة الّتي يكتسبها الصّانع الفنيّ قاتلة أيضاً. كلّ التجارب الجديدة تثير قلق الناقد وتهدد وجوده وسلطته. لم يكن الناقد يتعامل مع هذه التّجارب كمحاولات حرة لها صوت وشكل، بل كتجارب فوضويّة جامحة تهدد شخصه، يرغب بتطويعها وتمزيقها ويصنفها في كثيرٍ من الأحيان بالفشل.


الصّانع الفنيّ قاتل ومجرم، كونه يمارس خبرة عمليّة تعتبر خطوة متقدّمة لخلفيّة نظريّة، ومخزون ثقافيّ يعتقد نفسه أنّه ملم به، بينما يعتقد الناقد بأنّها تنسب له وحده فقط، وهذا التعالي والتعدي على مجال الناقد من قبل الصّانع هو ما يثير قلقه، لاعتقاد ذلك الأول أنّه محور العالم، وأيّ شيء يحدث على سطح الكرة الأرضيّة يهدد حيازته لسلطة معرفيّة.


الناقد يهرب من الموت بكتابته النقديّة ويبحث عن الأمان والبقاء كمسكّنات لغياب حريته، علما أن الصّانع الفنيّ يدرك بأنّه مُراقب، وفي أيّ لحظة يمكن أن يُعاقب. إنّه ذلك البهلوان الّذي تجرّأ على العبث بحريّة الناقد، فتحوّل الناقد إلى طاغيّة مهتاجٍ يريد قتل الموت وإثبات سلطته، وتعامل مع المحاولات الجديدة لا كمحاولات تنتهك السّلطة الثقافيّة، بل وتنتهك وجوده كفردٍ أيضاً، فتكون السّلطة والعمليّة النقديّة ذريعةً تتيح له إثبات وجوده كفرد وكناقد، وإزالة قلقه وشرعنة دافعه. فالكتابة النقديّة موقف اتخذه الناقد لتجاوز العطب الوجداني وهرباً من الاحتفال بانهياره، مأساته الحقيقية أنّه يرفض الموت، الموت الذي ولد معه فأصبح شبِقاً للنجاة والبقاء. واقتنع بحقيقة أنه كلما اشتد بطشه كلّما أثبت وجوده، وكلّما تمّ الاعتراف بالخضوع له.

الوسوم

التعليقات

تابعنا على   +