أشكال ألوان| سنعتذرُ لنا عن موتنا

أشكال ألوان| سنعتذرُ لنا عن موتنا

ماذا يحدث لو أن فعلاً ما جُرِحَ غيمةٌ في النفس؟ لا شيء، بضع قطرات تسقط من ماء الكبرياء!


كيف تستعيد النفس ماءها المسفوح؟ ما خف وزنه من المازوشية وما شفّ، طورته البشرية في صيغة اعتذار يُستعمل في دائرة العلاقات الاجتماعية ما بين الأفراد، حينما تقع حادثة اصطدام خفيفة بين روحين، تخدش إحداهما الأخرى بكلمة أو موقف أو فعل.


هو شيء من قبيل العقوبة أو لنقل إنه شقها اللامادّي، أو قرينها الرمزي أو المعنوي، إنه مبادرة الروح الخاطئة لإصلاح عيبها الشخصي، وإلى ذلك فهو اعترافها بما أصابها من زلل يقتضي الإصلاح بطريقة ما.


لا العقوبة مهما تعددت مستوياتها وتدرجت، ولا الاعتذار يمكن لهما أن يعيدا العالم إلى سابق عهده قبل وقوع الفعل أو الحادثة أو الكارثة أو الخدش المؤدي لانهمارٍ كتيمٍ في الروح، كل ما في الأمر أن العقوبةَ تحاولُ أن تقدم تعادلاً في الموت أو في أي شي آخر، كما يحاولُ الاعتذارُ أن يقدم تعادلاً في الخدش.


على صعيد العلاقات الدولية تمت استعادة هذا كصيغة تعويضية وجزاء من بين مستويات أخرى للتعويض وجبر الضرر، وليست العلاقات الدولية سوى علاقات فردية، إنما في مستوى أعلى من التجريد.


لكن ليست كل الأرواح تدرك فداحة الخلل، وليست كل الدول بوارد أن تسقي بماء الحكمة طين الكبرياء، وتعيد جبر النظير المنكسر.


وبالطبع ليس كل القادة ممن يحملون جرح الأوطان باعتباره جرحهم الشخصي، أو يحفظون الكبرياء المسفوح للشعوب.


يستحضر الذهن في هذا السياق مثال هواري بومدين الذي انتابه جرح الجزائر، وودَّ لو يعيد إليها ما انسفح من دماء الأبناء والكبرياء على يد المستعمر.


رفض بومدين زيارة فرنسا ما لم تعتذرعن 132 سنة احتلال ومليون ونصف من الشهداء، وحين اشتد عليه المرض نصحه الأطباء بالعلاج في فرنسا فقال ادفنوني حياً ولن تعالجني فرنسا، حتى زوجته كان قد أوصاها ألّا تطأ قدماها أرض فرنسا.


كم من الدول عليها أن تعتذر عن موتنا واحتلالنا وما أريق من دماء شهدائنا أيها الراحل.


لا ينتمي العالم إلى الروح الجريحة التي بقيت بلا تاريخ، قدرَ ما ينتمي إلى الروح الجارحة، وعلى الشعوب الجريحة أن تضمد جرح روحها وتصنع له تاريخاً.


لن يكون في وسع السيد أن يقدم اعتذاراً لمن يرى أنهم عبيد، ولطالما كان التسامح والاعتراف بالذنب تحصيل حاصل عن بلوغ الضعفاء مصاف الأقوياء. يكفي أن نتذكر أن بابا الفاتيكان قد اعتذر لليهود ولم يعتذر للمسلمين، وأن دولة مثل ألمانيا اعتذرت لإسرائيل بألف طريقة وطريقة.


هل يتذكر العالم أنه مدينٌ لنا بألف اعتذار، من أمريكا إلى إسرائيل، من روسيا إلى إيران، من فرنسا إلى بريطانيا العظمى.


لم نُعطَ بعد فرصة أن نقيم الحداد على الموتى، أن نغسلهم ونكفنهم، أن نؤدي على الشهداء صلاة الغائب، ونعود إلى الحياة ويستريح الأموات في موتهم.


يبدو العالم وهو مغتبط بجنون السادية، مثل ذلك الرسام الإغريقي الذي يشتري «عبداً» من أسرى الحرب ويقوم بتعذيبه حتى يصل إلى ذروة الألم التي تسبق الموت، يقول العبد الكهل للرسام: هل تريد أن ترسمني أم تريد أن تقتلني، فيأمر الرسام عماله بمواصلة الجلد وهو ممسك بالريشة، وفي ذروة الألم يقول الكهل إنني أموت فيرد الرسام، هذه هي اللحظة التي أريدها، ذروة الموت.


لن يفهم العالم معنى الاعتذار لأنه لم يفهم بعد ألم الضحية، ألم الموت. يبدو أن علينا نحن الضحايا أن نرسم جدارية جرحنا ونعتذر لأنفسنا عن موتنا العظيم.

الوسوم

التعليقات

تابعنا على   +