أشكال ألوان| بين ورقتي وجدرانهم

أشكال ألوان| بين ورقتي وجدرانهم

كانت الورقة ترتجف بين يدي، وأنا أحاول بكل ما أوتيت من حنكة طفولية أن أخفي ملامحها بين بقية الأوراق.


حدثَ ذلك في العام الدراسي 1995، حينما كنتُ في الرابعة عشر من عمري. كان طلباً غريباً من مدرّسة مادة الثقافة، أو ما كان يعرف وقتها بالتربية القومية الاشتراكية، حين قالت لنا في نهاية ذلك العام بعد أن أنهينا المنهاج، أنها تريد رأينا بحرية مطلقة عن المادة ومحتواها، وأن لنا حرية القرار بوضع أسمائنا على الأوراق.


كم كان مربكاً هذا الطلب، وكم كان حراً أكثر مما اعتدنا.


لم تكن لي خلفية سياسية واعية عن نظام الأسد، ولم أكن أنحدرُ من عائلة لها تاريخ نضالي أو حزبي، بل كنتُ من عائلة عادية جداً فيما يخص المجال السياسي، ولم أكن أعرف شيئاً بالمطلق عن النظام، سوى أنه النظام الحاكم لسوريا لا أكثر.


لا أدري ما الذي جعلني أطلق العنان لقلمي حينها وأكتب، لربما هي فسحة الحرية البسيطة التي أحسست بها حينها، قررت ألّا أضعَ اسمي وأن أكتب ما أريده لأول مرة، وكأول تجربةٍ في حياتي في ممارسة حرية التعبير عن الرأي.


لقد كتبتُ كثيراً عن ذاك الكتاب ومحتواه المهترئ، كتبتُ عن إنجازات الحركة التصحيحية الوهمية التي لا نراها على أرض الواقع، كتبتُ عن جمود هذه المادة وعدم ملامستها لا من قريب ولا من بعيد للواقع، وأنها مادة تحبسنا في ماضٍ لا نراه الآن، ولا نرى حتى أثره، دون أن تعطي أي أهمية لما هو حاصل الآن أو ما سيحصل. لا أفقَ في هذه المادة ولا أهمية أراها، وبرغم ذلك هي مادة مفروضة علينا ويجب ألّا نرسب فيها رغم أنها بالغالب مادة للحفظ دون الفهم، وهذا كان سؤالاً آخر: لماذا يجب ألّا أفهم؟ وعندما نتكلم عن حقوق الكادحين والعمال في هذا الكتاب، فلماذا لا نرى هذه الحقوق مطبقةً؟ أليس من حقنا أن نقول إذن إنها مادة غير واقعية بالمطلق؟


كان القلم يرتجف معي وكفي يتعرق بغزارة، أنظر كل برهة للمُدرِّسة والطالبات، هل رآني أحد؟ هل استرقَ أحدهم النظر إلى ورقتي؟ كنتُ أشعرُ أن ممارستي للحرية جريمة، كأنني أرتكب ما لا يصح، وكأن الكلمات قيدٌ سيرميني للدرك الأسفل. هممتُ عدة مرات أن أمزقها وأعيد من جديد، الاسم: فلانة، الموضوع: مادة رائعة! إلا أنني ولسبب ما لازلتُ أجهله، لم أستطع.


عندما انتهى الوقت المخصص للكتابة كان على أحدهم جمعُ الأوراق، تبرعتُ فوراً لخوفي أن يضع أحدهم ورقتي في المقدمة فتضيع جهودي الطفولية بمحاولة تغيير خطي قليلاً حتى لا يُكتشف أمري، لملمتها سريعاً وتأكدتُ مئة مرة أن ورقتي في المنتصف تائهةٌ بين الأوراق. رأيتُ الأسماء والمديح وشعرتُ بالغثيان لمجرد قراءتي لتلك العبارات الكاذبة سريعاً، ومن ثم سلمتها للمُدرِّسة.


لازمني الرعب طيلة الأسابيع المتبقية من الفصل الدراسي، متى سيأتون لاعتقالي؟ كنتُ أدركُ رغم صغر سني أنني بما كتبته قد تجاوزت محرماً ما، وحتى الآن لا أملك جواباً عن لماذا وكيف قررت أن أكتب ما كتبته، وهل لو أنه كان عندي وعيٌ سياسيُ أو نضالي عبر عائلي حينها، فإن الأمر كان سيختلف؟ وهل كانت المُدَرِّسة حسنة النية حين طرحت هذا الموضوع، أم كانت عضواً في حزب البعث وتقوم باستدراجنا؟ هل قرأت ورقتي أم أنها رمت الأوراق جميعها؟ هل خافت من ورقتي حين قرأتها فمزقتها؟


عندما نتحدث عن التعليم في سوريا، فنحن نتحدث عن طلائع البعث وشبيبة الثورة واتحاد الطلبة الجامعيين والتدريب الجامعي العسكري، لا يمكن عزل الأمرين عن بعضهما فتلك كانت اللبنة الأساسية التي حولت هذا المجال لأفرع أمنية، وحولت كثيرين إلى مخبرين لنظام الأسد الأب ومن ثم الابن، وهي ذاتها التي خرّجت أولئك بشهادات شبيحة في الثورة.


كان نظام الأسد الأب يدرك أنه كي تمارس سلطة ديكتاتورية طويلة الأمد، عليك حقن السوريين بعقيدة الحزب الحاكم، ويتم ذلك بإحكام السيطرة على ثلاثة مجالات وتسييسها لمصلحتك الخاصة: التعليم والدين والقضاء. وهذا ما جعل الخوف عاملاً أساسياً عند الجميع، الخوف من الكادر التعليمي ومن زملاء الدراسة ومن أئمة المساجد ومن المحامين والقضاة على حد سواء، أي الخوف الدائم من الآخر نتيجة زرع ثقافة القمع والمراقبة والخضوع وعبادة القائد الرمز، بحيث يصبح الحسّ الأمني حاضراً في كل تفاصيل الحياة.


من تجربتي الخاصة أعي تماماً لماذا كتب 18 طالب على حائط المدرسة شعارات ضد النظام وشعورهم الخاص بالحرية حينها، ومن إدراك حقيقة هذه المنظومة نعلم لماذا كانت ردة فعل مدير مدرسة تجاههم هكذا، وكذلك تعامل الأمن معهم. منظومة الأمن التي أسسها الحكم الأسدي ضمن المجال التعليمي، كان لا بد أن تفضي إلى مثل هذه النتيجة، التي تفشت كنتيجة حتمية لقمع الثورة بالعموم.


لن تكون الثورة جذرية إلا عندما ندرك الحقيقة وراء هذه المجالات الرئيسة في قيام أي مجتمع مدني صحيح، ونبدأ بإيجاد البديل المقبول لها منذ الآن، مع الأخذ بعين الاعتبار تعويض خسارات جيلٍ كاملٍ فقد التعليم في مخيمات النزوح، وجيلٍ آخر اضطر للانخراط في إحدى مجالات الثورة، تاركاً مقعده الدراسي فارغاً إلا من صور من قد استشهدوا على يد المنظومة الأمنية.

الوسوم

التعليقات

تابعنا على   +