أشكال ألوان| اعترافات طالب من مدرسة خاصّة

أشكال ألوان| اعترافات طالب من مدرسة خاصّة

قضيتُ كامل فترة دراستي في مدرسة خاصة، وكنّا ننقسمُ بين «رجال أعمال» المستقبل، و«واسطات» المستقبل، و«شيوخ» المستقبل، لكننا، بعكس المدارس العمومية، لم ننل شرف اللقاء بـ «فقراء» المستقبل و«مُعتَّريه».


أحدّثكم عن المعلمين؟ لم يحظَ أولئك المساكين يوماً برفاهية تكفي كي يُفكّر الطلاب فيما بينهم إذا كانوا يخشون المعلمين أم لا. كانت الصورة مقلوبة، وكانوا يخافوننا، مع العلم أنّ ما شهدتهُ من صدامات بين طلاب ومدرسين كان نادراً، وأكاد لا أذكرُ منه إلا الحوادث الشخصية، العادية في معظمها. إذ كان هناك احتمال ثابتٌ أن ثلث الصف؛ بمعدل عشرين طالباً من أصل ستين، لديهم القدرة على إعطاء الأوامر لثلاثة رجال مفتولي العضلات ينتظرونهم في الخارج طيلة دوام المدرسة. نخافُ المعلمين؟ ها! كنّا رعباً حقيقياً للكبار في ذاك البِناء الرخامي الحديث. بل أجزمُ أن المدرسين كانوا يَحسدون «علّام الملواني»، في مدرسة المشاغبين، على طلابه اللطيفين.


أخبرتكم أن بناء مدرستنا حديث ومتطوّر؛ حسناً! لقد كانت مدرستنا في ذلك الوقت قد بلغت مرحلة بعيدة في هذا المجال، حتى أنها كانت المدرسة الأولى التي تمتلكُ سقفاً متحرّكاً يغطي باحاتها الكبيرة الثلاث كلما انهمرت الأمطار. لم يكن لمدرستنا سور. لذا، لم تتمزّق ملابسنا أو تتّسِخ أيدينا أو تنكسر أرجلنا على جدرانها يوماً! ومع أننا كنا نحسد أبناء المدرس المسوّرة على ذلك، بيد أننا لم نكن نُضطّرُ إلى الهرب في الأصل. كان يكفي أن يتجه أحدنا نحو باب المدرسة، ويرفع يده مُسلِّماً على بوابها، ثم يشيرَ إليه ليفتحَ الباب دون أي كلمات سحرية أو مفاتيح خاصة.


إذا كانت تلك المدرسة سجناً، فإن طلابها كانوا السجانين الذين يَعتقلون هيئتها إدارية لست ساعات في اليوم، إذا لم نحسُب الآثار النفسية خارج أوقات الدوام الرسمي. ومع أنه لم يكن يجمعُ بيننا وبين مُدرّسينا شيء، سوى بعض التزلف و«الواسطة» من قِبل بَعضهم، إلا أن معظمنا كانوا متفقين على أمر واحد؛ الخوفُ مِن كلمة «أب»؛ إذ أن معظم الآباء الذين ترد أسماؤهم في المدرسة كانوا «آباءً قادة». لذا، كانت فكرة استدعاء أولياء الأمور، أو الاتصال بالمنزل للسؤال عن الطالب الذي غاب أسبوعين مُتصلين، أمراً أشبه بمهمة شبه مستحيلة، وغالباً ما تأتي بعواقب وخيمة كان الجميع في غنى عنها.


**


حصّة «فراغ»:


أكتبُ هذا النص في السويد، بينما تمر بجانبي فتاة ليست أقل جمالاً من مِلكات الجن في سلسلة أفلام «سيد الخواتم». تقودُ الفتاة شاحنة؛ تجرُّ عربة تفيض ورداً وألواناً. الحقُّ أقول لكم: لم أعلم في مدرستي أن هناك مهنة تُدعى البستنة، سواءٌ أكان ممارسوها رجالاً أم نساء.


**


عُدنا!


سأحدّثكُم عن علاقتنا بالحزب، العملاق حسب الأغنية المعروفة:


الحقيقة أنني وصلتُ إلى المدرسة في أحد الأيام، متأخراً كما جرت العادة، ليخبرني أحدهُم أنه جرت الموافقة على طلب انتسابي الذي لا أذكرُ أنني شاهدته يوماً، إلى الشبيبة. ومرّة أخرى، وصلتُ إلى المدرسة، وبالطريقة ذاتها عرفتُ أنني تحولتُ من نصير (شبيبي، وليس شمّة!) إلى عضو عامل (شبيبي مجدداً، وليس مهدي!) عرفتُ، أنا والشباب، أن تلك الترقية الأخيرة لم تُكن من نصيب الجميع، حتى أولئك الذين كانوا يسعون إليها بجد، واجتهدوا في تحضير حلقات البحث، عن آثار سورية غالباً، وفي إلصاقِ صور القائد الباهتة على دفاترهم، وربما فوق أسِرَّتهم أيضاً.


ومع أنني لم أتغيّب في نظر المدرسة عن اجتماعٍ حزبي واحد، إلا أنني لم أكن موجوداً في أي اجتماعٍ بحسب جداول التفقُّد. أجل يا سادة، كان الحزب مفيداً، ولولاه لما صقلتُ مهاراتي في استخدام القناصات في محلات الـ counter strike! كان الحزب حجتنا لمغادرة المدرسة، ومع أننا لم نكُن مضطرين للهرب كما أسلفت، إلا أن هناك مفارقة عجيبة، لا تخلو من متعة خفية، حينما تتلقى التحية والثناء من الهيئة الإدارية، وأنت تغادر المدرسة نحو محل الألعاب.


تذكرتُ الآن عَلامة «يا هلا» للألبسة المدرسية. كان ذلك الاسم الصغير قادراً على تقسيم البلاد إلى طبقات اجتماعية واقتصادية. أما مُدرستي، فكانت الساحة الإعلانية المفضلة لـ «ياهلا»، ولو أن أجنبياً دخل المدرسة، لاعتقد أن هذا الاسم الصغير هو اسم المدرسة، أو اسم البلاد نفسها. ومع أن الجميع تقريباً كانوا يَرتدون بدلات «يا هلا» جديدة في كلّ سنة، إلا أن المدرسة لم تقبل تسجيل أيّ طالب دون استثناء موقّعٍ من الوزير، في كلّ سنة أيضاً!


في عامي المدرسي الأخير، في خضم مَسيرة التحديث والتطوير، استبدلَت الوزارةُ لباسنا العسكري الخاكي، بآخرَ رَسمي رَمادي. لم تستطِع «ياهلا»، بوابة الحرس القديم، أن تواكب قفزات القائد الجديد، لكنّنا نحنُ، الجيل الشاب في المدارس الخاصة استطعنا ابتكار الحلول المناسبة؛ بنطال جينز رَمادي اللون، وقميص أزرق فاتح.


كانت تلك مَرحلة مفصليّة، تاريخية حسبما يقول مُراقبون، في تاريخ البلاد المُعاصِر؛ تركنا «ياهلا» وحيدة، وصِرنا جميعاً United Colors of Benetton!

الوسوم

التعليقات

تابعنا على   +