أشكال ألوان| أهدافُنا...عهدُنا

أشكال ألوان| أهدافُنا...عهدُنا

مجددًا، نجدُ أنفسَنا مطالبين بالاعتذار على تكرارِ الحديثِ عن سوريا، لأصدقائنا غير السوريين، لكنّنا نُصرُّ دائمًا على استبقائهم، لنروي لهم حكايات سوريّة لم يسمعوها من قبل. ودائمًا ننجحُ في ذلك.


*


ليس صعبًا، ولا يُعدُّ أمرًا مُستهجنًا، إذا ما أرادَ الإنسانُ تفسيرَ ما جرى ويجري في سوريا خلالَ السنوات الخمس الماضية، وإحالتَهُ إلى سببٍ ما، أن يقول: أربعونَ عامًا في مدارسِ حافظ الأسد.


هذا يعني أنّ بلادًا كاملةً ظلّت تتشرّبُ فسادًا وفقرًا وجهلًا ورعبًا قرابة نصف قرن.


المدارسُ الشاحبةُ الصفراء، ذات الشكل الموحّدِ أينما ولّيتَ وجهكَ في دمشقَ وحلب واللاذقية وحمص ودرعا والسويداء والدرباسية وعين ديوار. المدارسُ ذات الأسوار الشاهقة كأنما سجون. السجونُ قليلةُ الذوق، ذات الجدران الخشنة، والرسومات التافهة، والعبارات التي تُمجّدُ الطغاة الذين يقودوننا إلى الامّحاء.


تعلمنا هناكَ وجوبَ إبادةَ الإخوانِ المسلمين، في تلكَ المدارس، حينَ كنا نرددُ الشعار صباح كلّ يوم:


«عهدنُا: أن نتصدّى للإمبريالية والصهيونية والرجعية. ونسحقَ أداتهم المجرمة: عصابة الإخوان المسلمين العميلة».


كنا صغارًا جدًا، ونستخدمُ فعلَ السحقِ كلّ يوم، وكانَ لنا عهدٌ أيضًا كما رأيتُم، رغمَ صغِرنا. نسحقُ بشرًا آخرينَ بأقدامِنا الطفلة الجميلة. في تلك المدارسِ، التي كانَ الموجّهُ فيها يأخذُ أيضًا صفةَ المخبرِ تلقائيًا.


كانَ لدينا موجهونَ مُخبرون، وكانوا كثيرين جدًا، وكانت مهمتهم توجيهُنا، أنتم لا تعرفونَ معنى أن يوجّهكَ مخبر!


صودفَ مرةً في الثانويةِ الزراعية في السويداء، حيثُ درستُ لسنتين، أن كنتُ جالسًا على الرصيفِ صحبةَ زملائي، في استراحة ما بينَ الدروس، ووجدتُ طبشورًا أحمر، ملقى على الأرضِ فوقَ رسمٍ لوردةٍ حمراء أيضًا، فما كانَ مني إلّا أن رسمتُ قاربًا أحمرَ، ومنجلاً ومطرقةً لإضفاء بُعدٍ سياسيّ على اللوحة التي باتت واضحةً للمارّين من الزملاء. وليس في ذلك مشكلة، المشكلة أنها كانت واضحةً بالنسبة للأعداء أيضًا، رغم أنني لم أكن قد عرفتُ في ذلك الوقت بعد، أنّ الموجّهينَ يُمكنُ أن يكونوا أعداء إلى هذا الحد.


لحظات وأرى موجّه المدرسة يقتربُ نحوي، يُرغي ويُزبدُ ويرتجفُ كمن أصابهُ مسٌّ في عقلٍ أو بدن. يصرخُ في وجهي: ببلادك خريو عليه هذا الشعار... ببلادك خرينا عليه... امسحو ببوطك... امسحو ببوطك!


ولأنّ الأمرَ كان يحدثُ على مرأى كثيرين من طلاب المدرسة، وكثيراتٍ أيضًا، وبما أنني كنتُ أحبُّ الإخوةَ الشيوعيين في ذلكَ الوقتِ، ومحسوبًا على كوادرِهم غير المنظمة، أي مناصريهم، فقد كانَ لزامًا عليَّ أن أخوض المواجهة، فأجبتُهُ بهدوءٍ وثقةٍ ورصانة: لا... آسف... ما بمسحو، حتى لو طلبت مني إمسحو براسي مش ببوطي.


يا للروعة! الفتياتُ الجميلاتُ بتنَ ينظرنَ إليّ بوصفي بطلًا الآن. على أيّ حال لم أكن أحمقًا لوحدي، هنّ أيضًا كنّ حمقاوات.


لكنّ ما هو أهمّ من إعجابِ الصبايا، وأكثر ديمومةً في ذاكرتي إلى الآن، هو أنني جُررتُ إلى غرفةِ المديرِ، بحضورِ لفيفٍ من الهيئة التعليمية في المدرسة، وخضعتُ لأوّلِ تحقيقٍ سياسيّ في حياتي. ألم نقل إنها تشبهُ فروعَ الأمنِ والسجون؟!


تلك هي البلاد السورية، كانت تسحقُ الإخوانَ المسلمينَ في الاجتماعِ الصباحيّ، وتمسحُ شعارات الشيوعيين في استراحات الدروس. (لكنها كانت مقاومة كما تعرفون).


ليسَ مستغربًا أبدًا، أن الأطفال الذينَ أشعلوا الثورة السورية من درعا لإخراجِ هذه البلادِ من قوقعتِها، كتبوا شعاراتِهم على حيطان المدارس... تلك فروعُنا الأمنيةُ الأولى.


هذا ما حدث تمامًا


أربعونَ عامًا في مدارس حافظ الأسد.

الوسوم

التعليقات

تابعنا على   +