أشكال ألوان| كل تعصب لا يُعوّل عليه

أشكال ألوان| كل تعصب لا يُعوّل عليه

ما نفع أن تستخدم ضد خصمك، سلاح العنف والاقصاء الذي كنت ترفضه وتناضل ضده، لمجرد أنه استخدمه ضدك؟


هذا هو السؤال الحفري العميق، الذي ينبغي أن يهز ويزلزل كل الاطراف في الساحات العربية المشتعلة بالحروب الداخلية بلا استثناء؛ كي يخجلوا من ذواتهم قليلاً وحتى تكون فرصة مثلى للمراجعات والتصويبات!


فالمؤكد كما يقول تاريخ الشعوب الاستثنائية أن فكرة الانتقام مهينة للإنسان الحقيقي، وأما من يوقف التعامل بها فهو الأقوى، لا العكس. ولذلك لا حرية ولا تعايش ولا أمن، مع ماتصنعه متواليات فكرة الانتقام. كما أن فكرة الانتقام تجعل من فكرة التغيير أمراً محالاً.


والحال أن مشكلة مجتمعاتنا المتخلفة؛ هي غطرسة الأقوياء في كل مرحلة، فيما الغطرسة مرض قبلي عشائري مذهبي طائفي وسخ.


لذلك لا مناص لنا من أن ندافع عن فضيلة حقوق الإنسان كإنسان حتى الرمق الأخير،  فهي المرتكز لنفي خطيئة الطغيان، وتعزيز وعي العدل، والمصالحة الوطنية بالابتعاد عن آثام الماضي توقاً للمستقبل أقل خيبة.


والثابت أن كل حركات وتكوينات السلاح والإرهاب تبقى في أمس الحاجة إلى جلسات وبرامج سياسية ومدنية للعلاج من الإدمان على العنف. ذلك أن مشكلة العنف، تتمثل في الإدمان على العنف بأن يصبح حالة ادمانية تهدئ أعصاب المنتسبين إليه وتبهجهم وتجعلهم يقدسون أوهامهم إضافة إلى نشوتهم المدمرة للمجتمعات. وهكذا، فإنهم يحتاجون مع كل جرعة دموية الى زيادة الجرعة التالية للأسف.


على أن التعصب يحدث حين يضيق أفق التسامح، ويتسع أفق التسامح حينما لا نتمحور حول رؤيتنا التعصبية المغلقة. المعنى: أن التعصب هو مشكلة العقل المنفعل عموماً. وبالتأكيد: كل متعصب لا يعول عليه.


فالتعصب يأتي ويترسخ نتيجة فهم خاطئ للذات وللآخر. والواقع أنه لا يمكن الارتقاء بمجتمعات التعصب دون فضح تنويري واع ومسؤول لكل المفاتن الزائفة التي يغذيها وعي التعصب نفسه ويقينياته الواهمة. بينما يعتبر التطرف الديني هو أقوى أنواع التعصب انتشاراً ودماراً وتغذية للكراهيات.


فالمتعصب ينطلق من عقدة نفسية وفكرية عميقة ومتشنجة ومهووسة بامتلاك الحقيقة، كما يتملق ويؤجج ويستغل دائماً غرائز الهياج الجماعية لدى الجماهير التي هي الوقود المثالي للتعصب.


وبحسب خبراء التربية فان التعصب يعتبر نتيجة مباشرة لعملية التنشئة الاجتماعية السلبية، حيث تتراكم القيم والمواقف المحددة سلفاً تجاه الأشياء والأفعال والرؤى والأشخاص لتتفاعل فيما بينها شيئاً فشيئاً، وتشكل نسقاً من الأفكار والاتجاهات والمعتقدات المتعصبة.


لكن الأسوأ في مسألة التعصب، هو تعصب الضحية حين تريد أن يتلبسها تعصب الجلاد بالمقابل!


أما التسامح فهو الذي يجعل السعادة حقاً أصيلاً ممكناً لكل إنسان، كما بالتسامح لا نكون مقهورين أو قاهرين، على عكس العدوانية التي تجعلنا مجرد مقهورين وقاهرين فقط!


بالمقابل فإن المتسامحين هم سراج العالم، أهل الحكمة والرشد، صناع التعايش، سدنة السلام وعشاق الحياة. مصقولة أرواحهم بالحب، كما بهموم المستقبل الإنساني المثالي، فيما يعتبرون العفو قوة، ويتجاوزون ألمهم بوعيهم الروحي العميق. وهكذا يراهنون على القيمة الإنسانية العليا، ويجددون أنفسهم ويتفوقون ويتجاوزون.


العدوانيون من ناحيتهم؛ مجرد طلاب ثأر، وهم السبب الرئيس لسطوة البطش في هذا العالم. إنهم أهل الطيش والجهالة؛  يتشبعون بالعنف ويبتكرون الخراب، صارمون في إذكاء تشوهاتهم بشدة. خائبون.. يفكرون في بعث الماضي الانتقامي السيئ، ويعتبرون العفو إهانة، كما أن العدوانية خط دفاعهم الوجودي الأول.


لكن طريق الارتقاءات شاق وطويل، وبالرغم من التحديات التي لاتوصف، إلا أننا سنستطيع التسامح يوماً وننجو.


كذلك فإن الأمم العظيمة هي التي تقدم الدروس التاريخية الملهمة. ولطالما أربكني وحيرني موقف اليابان في التسامح بعد هزيمتها في الحرب العالمية الثانية، إثر معارك شرسة، وقنبلة ذرية ومليون قتيل ومشوه، واستسلام وإقرار مرير بالهزيمة.


فاليابان عرفت بانتهاجها العنف والكبرياء والقسوة والنزعة العسكرية على مدى قرون؛ فضلاً عن احتلالها المتكرر لشعوب أخرى وإهانتها وقهرها.


لكنها، وبعد ضرب أمريكا لها بالقنبلة النووية، قامت بغربلةٍ شُجاعةٍ لتراث فكرها السياسي والعسكري، بعدما تحولت من جلاد إلى ضحية، ليكون التحول القيمي الكبير والفارق.


وفي الحقيقة، ثمة نصوص عربية محرضة على العنف، تحتاج أن نخضعها لمبضع النقد، ومن ثم الازدراء الثقافي. ذلك أن «الحداثة تسامح»، والتسامح هو المعيار الإنسانوي الرفيع.


لكن الموقف الثأري من الأفكار التي تخالفنا وأصحابها يعد موقفاً ضد الأخلاق، فما بالكم بالثقافة. الثقافة كحاضنٍ للأخلاق في الأساس.


في السياق أيضا نجدنا في حضرة أيقونة التسامح الخالدة نيلسون مانديلا، الذي تسامى فوق جروحه بوعي مستقبلي ثاقب، بينما كان تسامحه بداية حقيقية لجنوب أفريقي جديد غير مقيّد بآثام الماضي، هذا الاختبار الإنساني الأخلاقي هو أعلى مراحل اختبار الإنسانية، لقد نجح فيه نيلسون مانديلا بحكمة متفوقة، وبروح طهّرتها الآلام.


فلقد كانت تشغله عقب خروجه من السجن، كيفية تعامل السود في جنوب إفريقيا مع إرث الظلم ليقيموا مكانه عدلاً. كان يعي أن «إقامة العدل أصعب بكثير من هدم الظلم، فالهدم فعل سلبي، والبناء فعلٌ إيجابي». كما خلصت به تجارب الحياة إلى أن «النظر إلى المستقبل والتعامل معه بواقعية، أهم بكثير من الوقوف عند تفاصيل الماضي المرير».


وطبعاً، فإننا لا نعني بالتسامح ذلك الذل أو تلك المهانة، وإنما احترام الإنسان على قاعدة الحق والعدل مع احترام شرعية الاختلاف الخلاق على قاعدة إدارة الخلافات بوعي ومسؤولية. على أن التسامح لا تحققه لحظة الضعف القسرية بالتأكيد، بقدر ما تحققه لحظة القوة السامية بمعانيها المرنة والتنويرية ثقافياً، وبالتالي سياسياً واجتماعياً، الأمر الذي من شأنه أن يجبر كل الأضرار التي قد تحصل في الوعي الجمعي وطنياً.

الوسوم

التعليقات

تابعنا على   +