أشكال ألوان| كساد في معاجين الحلاقة

أشكال ألوان| كساد في معاجين الحلاقة

هناك كساد في معاجين الحلاقة في مدينتي، كنت أراقبها على رفوف البائع الذي نسي أو تجاهل ربما أن يزيل عنها أكوام الغبار، هو خائفٌ أيضاً أن يكون وجودها «رِدةً»، وفي أفضل الأحوال مشكلة تستدعي كثيراً من التوبيخ حين تقف عاجزاً عن الرد، فأن تثور على شخص تلك قضية مهمة، أما أن تخالف شرع الله، هنا تكمن المشكلة التي تتصارع في داخلك. هناك معانٍ إيمانية عميقة بدأت بالانزياح نحو الشكل، ونحو عبارات ربما لم نعتقد في أحسن الأحوال أن تتجه ثورتنا لتتمثلها، فنقف في حالة عجز بين القدَر والحرية.


كان عام 2013 في حلب مليئاً بالتغيرات، وكان حي طريق الباب يمثل الجانب الأهم من هذا التغير لما احتواه من أعلام ورايات وتقسيمات لشوارعه ومفاهيم جديدة وقوانين وأحكام، وكان عليك أن تجيد التأقلم والتحوّل إلى «مواطنٍ مثال» مع كل تغيرٍ يطرأ على الحي، وأن تمتلك القوة لتغيير كثيرٍ من المفاهيم والشكليات بناءً على طبيعة الحكام الجدد.


لم تأبه مدينتي لكسادٍ من نوعٍ آخر، كساد فكري لغوي فلسفي، كساد لطوابع البريد والرسائل المعطرة بغير الدم، كساد في الحياة لحساب الموت، فهناك دائماً حضورٌ لجنائز مبكرة وقراءات لتأبين مبكر وعزاء سابق.


لم تأبه مدينتي لكل ذلك، واكتفت بمراقبة الوجوه ومعاقبتها.


حلّاق مدينتي كان هو أيضاً قد تغيرت مفاهيمه نحو الوجوه، لم يعد يستعرض قدرته في تمرير الموس على خدك، صار يكتفي بتشذيب ما فعلته الحياة بك، يستعير في ذاكرته شخصية الحلاق القديمة، وكيف كان من «عضوات الحارة» مليئاً بالثرثرة والعطارة، ورائحة العطر.


«سيغلقون محلات الحلاقة»، قالها لي وهو يبحث عن إجابة مرضية مني، كأن أقولَ له لا تقلق، أو أنها إشاعات كاذبة، لكن الصمت كان كل ما أستطيع فعله.


جلستُ على الكرسي المخصص للحلاقة، وطلبتُ منه أن يحلقَ لي ذقني الفوضوية التي كنت دوماً أحبُّ أن أتركها كتعبيرٍ داخليٍ عمّا يدور في داخلي.


لا أعرف كيف اتخذت قراراً بإزالتها كحالة تمردٍ على القوانين الجديدة، ومحاولةٍ للعيش خارج إطار الاستسلام للقوانين الطارئة. «هو أول الرقص»، قلتُ وأنا أحاول أن أخفي خوفي وارتجاف «حلاق المدينة». كل القوانين الجديدة التي ستتحكم بمصيرنا كانت تنحازُ نحو الانفراد في صناعة القرار بلا نقاش، هي فقط القوانين الحاكمة، فالسلطة اليوم مستمدةٌ من الله كما يدّعون، ولا مجال للثورة عليها أو مناقشتها.


قبلاً كنت أتساءلُ عن سبب هذا النشاط الصباحي عند أبي وأبناء جيله في حلاقة ذقونهم كل صباح، وفي أغلب الاحيان مرتين في اليوم. يومها قال لي أبي أن الخوف هو الحاكم الفعلي للمدينة، بعد أحداث الثمانينات صارت الذقن تهمة وصاحبها عرضة للاعتقال بلا سبب سوى أنه تركَ لذقنه حرية التشكل، وصار علماء الدين والمشايخ بحاجة لورقة من أفرع الأمن ممهورة من الأوقاف للسماح لهم بذلك.


في الجيش كان أي أثرٍ على وجهك يحيلك لتهمة الإرهاب، وفي أفضل الأحوال لعقوبة السجن. يوم مات «ابن الخوف» في حادث سيرٍ وكان من أصحاب الذقون، وجدَ الناسُ راحةً عظيمةً في تربية ذقونهم لأيام، ربما وجدوا في ذلك مساحة الحرية التي رغبوا في ممارستها ولو لأيام قليلة. الحاكم الآن بلا ذقن والفوضى في داخلك تحيلك لمعرفة نفسية الحاكم الجديد، فهل علينا أن نتركها عشوائية أم نربيها «باسلية أو نتركها سلفية؟ كل الخيارات التي أمامك يحكمها الخوف والمزاج العام للقوانين الجديدة.


استعرتُ جملة شاهدتها ذات يوم على المسرح: «إن الشعور بالعبث.. يجعل القتل على الأقل لا أهمية له»، لأستطيع الخروج من حالة الخوف التي كانت تنتظرني في شوارع المدينة، ربما شعرت بالندم، ليس ربما بل من المؤكد أنني ندمت على ما فعلت، ولكن شعور «الحرية» كان يتنامى في داخلي وقتها، والتمردُ على الخوف كان المحرك الأساسي الذي صنع الحلم بالثورة.


استقبلتني سيارة الحسبة وكأنها كانت تنتظرني، وبدأت أصواتهم تعلو على صوت الحرية في داخلي، وبدأ الخوف في قلبي يحاول يائساً أن يجد مبررات لذلك الفعل الشنيع. كان جوابي الأسرع على سؤالهم: هناك كسادٌ في معاجين الحلاقة.

الوسوم

التعليقات

تابعنا على   +