أشكال ألوان| رمضان والجاذبية الأرضية

أشكال ألوان| رمضان والجاذبية الأرضية

أذرَعُ غرفتي في اسطنبول بقلق شديد صباح اليوم الأول من رمضان، وحين أقول «أذرعُ غرفتي» أقصدُ خطوتين شمالاً وخطوتين جنوباً، فغرفتي متناهية الصغر، ولطالما حظيت بأماكن شبيهة في دمشق وبيروت، لكن هذه الغرف الصغيرة سرعان ما تتحول إلى عوالمٍ خفيّة من الدّعة والرفاهية مع حلول شهر رمضان، خطوة واحدة خارج هذه الغرف وفي هذا التوقيت السحري من العام، كانت كفيلة بتحويل دمشق وبيروت في نظري إلى صحراء الجزيرة العربية، بينما تفرُّ نفسي الأمّارة بالسوء أمام قيظها، وكأنني البقية الباقية من فلول قريش.
متى نصل إلى فقرة التسامح المثيرة هذه؟!


في حقيقة الأمر يبدو المناخ العام في سوريا مهيأً للابتذال، ولتحويل المعتقد الإيماني الفردي، وما تقتضيه هذه المشاعر الإيمانية من سريّة في الفعل والالتزام، إلى عادات وتقاليد جماعية، شأنها شأن أي مجاملة يفرضها المجتمع على أبنائه.


وبالرغم من أن القانون السوري لا يجرّم صراحةً تناول الطعام والشراب في الأمكنة العامة خلال شهر رمضان، إلا أنه شأنه في ذلك شأن بقية الدول العربية التي تترك باب التأويل مفتوحاً للمقاولين والتجار من رجالات السلطة، حيث يسهل ابتزازك لممارستك حريتك الشخصية خلال هذا الشهر، وتحت تسميات قانونية مختلفة، مثل «الإخلال بالآداب العامة»، أو «خدش الحياء العام» مثلاً.



خدش الحياء العام؟! في سوريا؟! هذا البلد اللطيف تخدشُ حياءه شربة ماء في الطريق، بينما هناك أشرارٌ في الخارج يصنفونه كأخطر بلد في العالم!


في بيروت كنت لم أقرر بعد المجاهرة بإفطاري، حين سارعني أحد زملاء العمل في محل للعصائر بسؤاله: «هل ستصوم غداً؟!»


«لا»... خرجت سريعة من فمي وبدون تفكير. «بعد غد؟!» يصرّ زميلي بدهشة غير خافية، «أيضاً لا، أنا لا أصوم».
لماذا أكره نفسي؟! لماذا أعاقبني بالإعدام في مدينة مثل بيروت؟!
خلال أيام تناقل زملاء العصير شائعات عني تفيد بانتسابي لطائفةٍ لا تصوم، صراخ كبير الموظفين أمامي بلهجته البيروتية «خلاااص، عالجنّة ببنطلونك الجينز، جيب لكلاشن من تحت يا أبو عجاج».
ضحكت، وكنت مرعوباً لدرجة أنني لم أستطع نقل هذه الضحكة إلى فمي. هل القتلُ يفطرُ الصائم يا شيخ؟!
لبنان، حيث لا يُشترى السلاح إلا بالعقل، بِعْ عقلك واشتري سلاحاً، ومن حاز السلاح أكثر، أصبح بمقدوره الادعاء أن الله في صفه، من سيجرؤ ويقول لا؟!


في سوريا يحافظ كل من النظام والميليشيات المتطرفة على حرمة الشهر الكريم في الأماكن العامة، بينما تمتلئ معتقلاتهم بألوف المفطرين على قطع اللحم المتناثرة من جدران خدودهم إلى أمعائهم مباشرةً، لماذا لا يحمل المقاتلون رمضان معهم إلى أماكن العمل؟!
في بيروت شخصٌ ما يطلق النار باتجاه «المسحراتي»، ما ضيق الأخلاق هذا؟َ هل تفعلون ذلك عادة مع أصحاب الحفلات الصاخبة؟!.


في اسطنبول تعبر الأمبراطورية العثمانية بسلاطينها وخوازيقها، ورعب البشر حين يحكمون باسم الله بين البشر، تعبر كشريط حياة وبالأبيض والأسود أمام عيوني، بينما يمرّ أتراك بالقرب مني وأنا أدخن وأشرب النسكافيه في شارع قلّ فيه العابرون، لكنها حكمة الله أن ينهي حياة «عبده» الخطّاء في هذا الشهر.


كل هذا القلق والحذر أخبئه في صدري، أهربه معي من دمشق إلى بيروت ثم اسطنبول، وأعبر بسلاسة المجرمين المحترفين من مطاراتهم الدولية جميعها.


يمرّ الأتراك بالقرب منّي وكأنني غير موجود، أشعر بالضيق أكثر، حيث لا أحد يراقبني، خرجت ملايين النظرات المقددة والمخبأة من مخيلتي، عيون الدمشقيين والبيارتة، تراقبني بقرف.
أقف مذهولاً أمام واجهة المقهى الزجاجية حيث يجتمع عشرات «المفطرين»، كنت الوحيد الذي يحملق بطعام الآخرين، بأفواههم التي تزدرد. «ديجافو»، سبق أن رأيت هذا المشهد، لكن بتوزيع أدوار مختلف، أنا داخل المقهى ككائن فضائي، بينما يراقبني خبراء الفضيلة بعيون الباحث عن حسنة.


أنهي هذا النص في الساعة التاسعة إلا ربع بتوقيت اسطنبول، موعد آذان المغرب، زملائي السوريين في السكن، الصائمين الذين يستعينون بي خلال النهار لتذوق أصناف الطعام، يصرّون على مشاركتي فطورهم، أو ما أسميه أنا وجبة العشاء، هؤلاء أيضاً سوريون، لكنها اسطنبول تجعل كل شيء أخف.


وبينما يجتمع «العلمانيون» و«الإسلاميون» على شتم أو مديح وهمهم الأعظم بـ«السلطنة العثمانية»، تعيش تركيا بهدوء، تصوم، تفطر، تصحو، تثمل، لا شيء من هذا يحدد مواطنتك، أو حقك بالحياة كإنسان.

الوسوم

التعليقات

تابعنا على   +