أشكال ألوان| الدراما السورية... انفصال عن الواقع

أشكال ألوان| الدراما السورية... انفصال عن الواقع

تعاني الدراما السورية في السنوات الأخيرة من مرض الفصام والانفصال عن الواقع، وتغرق في الاعتبارات السياسية وتنفيذ الأجندات، وتتغلب فيها المعايير الربحية والأيديولوجية على معايير الفن والإبداع، فهي لم تعد تشبه السوريين ولا تعبر عنهم. هي بامتياز، دراما السلطة وتجار الحروب. وقد ينجو بعض الأعمال من مخالب السلطة ويلقى نجاحاً على الصعيد الفني والتقني، لكنه يسقط في فجوة الاغتراب والبعد عن الحقيقة، فهو لا يلامس تفاصيل الناس وأوجاعهم وصراعاتهم اليومية مع أقدارهم ومع مآلات الحرب ونتائجها الكارثية.


معظم الأعمال الدرامية تتحدث عن مشاكل اجتماعية، تحدث فقط في المجتمعات المثالية التي تعيش ظروفاً صحية آمنة، بعيدة عن واقع الإنسان السوري الذي نسي شكل المجتمع وسقط في مستنقع مخاوفه المتفاقمة وأمراضه الخاصة، مسلسلات تروّج لمظاهر الترف والعيش الآمن، في محاولة لتكريس فكرة الأمان والحياة الطبيعية التي سَوّق لها الإعلام الموالي مراراً، بينما تغمض عينيها عن مشاهد القهر والقتل اليومي والأحداث الدامية في بلادٍ دُمِّر كل شيءٍ فيها، وفي حالات كثيرة يكون موضوع الحرب أو «الأزمة» دخيلاً على العمل، الذي يتحدث عن حالات الخيانة والغدر وحب الشهرة والأطباء النفسيين الذين يعالجون المرضى ومدمني المخدرات بشكل إنساني مبالغ فيه، متجاهلين قضايا إنسانية كبيرة يندى لها جبين البشرية.


يحاول كثيرون من صناع الدراما الهروب من محاكاة المرحلة، على الرغم من أن الحدث اليومي يمكنه انتاج آلاف المسلسلات، إلى الأعمال التاريخية والكوميدية ومسلسلات البيئة الشامية المستنسخة، التي لا تخلو من رسائل سياسية مبطنة، وتُحمَّل مضامين وطنية ساذجة أكبر من حجمها، تذكرنا بدروس «التوجيه السياسي»، كالتعايش والانتماء. فمثلاً تم الحديث عن لواء اسكندرون المنسي والتعايش مع اليهود الدمشقيين في مسلسل سخيف كباب الحارة، كما تم حذف كلمة «ثوار» من قواميس السيناريوهات لأنها تذكر بثوار المعارضة.          


بعض المسلسلات التي حاولت محاكاة الواقع، كانت ترى بعينٍ واحدة وتلقن المشاهد أفكارها السياسية بشكل مبتذل، فتُجمّل صورة عناصر الأمن وتظهرهم كملائكة رحمة، وتبرز الجندي كرمز للسلام ومكافح للإرهاب والأمل الوحيد للنصر، ضاربةً بالحقائق عرض الحائط. تتحدث عن فكرة الاخوة والسلم الأهلي بشكل تلقيني فج لا يخرج من عباءة الشعارات البعثية، كما يتم إبراز الصمود الأسطوري للمواطن «المؤيد» وتمسكه بوطنه وإخلاصه له بشكل يشبه خطابة نشرات الأخبار التوجيهية ويمكن تسميته بـ «التشبيح الدرامي»، وحتى الأعمال التي حملت شيئاً من الجرأة وحطمت بعض قيود الرقابة، كانت نسخة مشوهة عن الأصل، ولم تخرج عن كونها تنفيساً ورياءً ديمقراطياً مشروطاً يذكرنا بمسرحيات دريد لحام وهمام حوت. أما بعض الأعمال الكوميدية فقد استغلت معاناة الناس وحصارهم كمادة للسخرية، ورقصت على جراحهم وانتقصت من إنسانيتهم بإظهارهم كشخوص بدائيين لا يمتون للحضارة بصلة.  


ينحدر المستوى الفني للدراما السورية ليتحول إلى فن استهلاكي، فبعد إقصاء جزء كبير من نجومها وطاقاتها المبدعة عن الساحة الفنية لأسباب وتهم وطنية شتى، فتح الباب أمام فناني الدرجة الثانية ممن أعلنوا الطاعة والركوع، فهما أهم من الموهبة، ليصبحوا نجوماً ويسهموا بقتل الدراما إلى جانب تجار الحرب الذين أدخلوا معظم شركات الإنتاج إلى ميدانهم، لترى بعينهم وتصنع الوقائع التي تناسبهم.


 دائماً كانت الدراما السورية، قبل السنوات الخمس الماضية، تواجه قمع الجلاد، وتخفض سقفها حين تتحدث عن الظلم والفساد، لكنها كانت تسلط الضوء على بعض الجوانب المظلمة في الحياة وتحتال على سلطة الرقيب لإيصال رسالةٍ ما، وكانت تحظى بشيء من الجماهيرية والتمييز الفني وتلامس واقع الناس بشكل ما، أما اليوم فهي غافلة تماماً عن هذا الواقع رغم اكتظاظه بأحداث الدراما الحقيقية، لأن صناعها الحاليين لا يرونه، ومن رآه فعلاً ثار عليه ورفض تزييفه وتجميله، فهو أكثر تراجيدية من سيناريو المؤلفين، والشوارع تتقن فن الدراما أكثر من ممثليها ومخرجيها.

الوسوم

التعليقات

تابعنا على   +