أشكال ألوان| الديمقراطية هي الديمقراطية يا الغنوشي

أشكال ألوان| الديمقراطية هي الديمقراطية يا الغنوشي

تنفس العرب والمسلمون الصعداء حينما سمعوا أن حركة النهضة الإسلامية التونسية قالت بمؤتمرها الأخير بالفصل بين الدعوي والسياسي، فالمسألة تعني أن للجميع الحق بتبني الآراء التي يبتغون، وأن السياسة ستكون مسألة بشرية ووضعية بامتياز حتى بالنسبة للنهضة ذاتها، ولن يُقدس من كان إسلامياً أو يُدنس من كان غير ذلك؛ إذاً هناك تفكير جديٌّ أن تتم إعادة الله إلى قلوب المؤمنين مجدداً، وأن يسحب ظل الله من ملكية الإسلاميين وأنهم يمثلون شرع الله، ويصبح الله مسألة إيمانية ولكل الناس الحق بأن يفسروا الدين والله والإيمان وشكل التدين والصلاة والصيام كما يرون؛ تلك الروح الجميلة سرت بين كل من سمع بالفصل، فقط المتشددون والجهاديون وربما أجهزة الأمن للدول ساءها الأمر، وخافوا إيقاف الاستثمار المربح في الدين وتسخيره لمشاريعهم الأصولية الإلهية. إذاً لأول مرة في عالمنا العربي والإسلامي تطرح مشروعية العلاقة بين الفرد وربه، إيماناً أو سوى ذلك من قبل إسلاميين سياسيين.


مناسبة الفصل هي مسألة شكل الحكم، فأي شكلٍ يمكن أن يسمح بإدارة الاختلاف بين التيارات السياسية المتنوعة ومنها «الإسلامية» وغير الإسلامية. كانت المنهجية السابقة للإخوان المسلمين والإسلام السياسي هي أن الدين دين ودنيا وعقيدة وشريعة، وبالتالي لا يمكن لشكل الحكم أن يكون إلا إسلامياً والدولة إسلامية؛ الفصل هذا يقول وبشكل معلن، أن الدولة مسألة بشرية محضة، وأن الدستور يضعه البشر وكذلك القوانين، ولا يتم استخدام الدين كأساس لها، ولا تنبثق منه. الدين وفق هذا الفهم يصبح مسألة إيمانية أخلاقية وجدانية خاصة بالجماعات المؤمنة به.


هنا نصل إلى إعلان الغنوشي أن شكل الحكم هو الديمقراطية، والذي هو أرقى شكل للنظام السياسي ويتيح للبشر، كل البشر مساحة واسعة من الاختلاف في الرؤى والبرامج والأفكار، واستناداً إلى مبدأ المواطنة وتساوي الأفراد أمام القانون، وبذلك يكون الشعب، كمواطنين متساويين، هو مصدر القوانين بأكملها؛ هذا الشكل تمارسه الدولة المتقدمة منذ قرابة قرنين ضمن إطار الدولة الرأسمالية، إذاً هو يناسب بشكل رئيسي الطبقات البرجوازية ويضمن لبقية الطبقات حقوقاً واسعة، الأخيرة معنية بتطوير هذا الشكل ليناسب كل حقوقها، وكذلك معنية بإيجاد شكل أكثر تطوراً من الحقوق التي تضمنها الديمقراطية ليصبح البشر فعلاً متساويين وأحرار ومواطنين بشكل كامل. كل الاختراعات التي قالت بالديمقراطية الشعبية أو الاشتراكية أو سواها أثبتت فشلها، وتحوّلت ولأسباب متعددة وليس هنا مجال نقاشها إلى أسوأ أشكال الديكتاتورية ومنع كل أشكال الحريات الصحفية والسياسية؛ إذاً لا محيد عن الديمقراطية البرجوازية ولكنها تخدم الطبقات البرجوازية بشكل رئيسي.


الغنوشي وفي حديثه مع جريدة الوموند الفرنسية منذ أسابيع، يطلق مصطلح الديمقراطية المُسلمة، للتأكيد على انحيازه للديمقراطية وترك مفهوم الشورى، ولكنه يخطئ هنا مُجدداً؛ فليس من شيء اسمه ديمقراطية مسيحية أو بوذية أو إسلامية، هناك ديمقراطية واحدة كما أوضحنا، ولكن استخدامه للمصطلح يكشف عن الارتباك الذي دخلت فيه حركة النهضة، فأن تتبنى الديمقراطية «الغربية» وأن تنتقد برسالة حركات الإخوان المسلمين وأنهم من أسباب فشل الثورات العربية، فإن روحاً جديداً تنبعث، وهذا دونه ألف تعقيد وتعقيد. الهام هنا أن حركة النهضة تجد نفسها معنية بإنهاء هذا الإرباك، وتبنى الديمقراطية، بل ويفترض بكل «إسلام سياسي» أن يتجاوز تاريخه السياسي والانتصار للديمقراطية والمدنية بل والعلمانية بما هي تحييد الدولة عن الأديان، واحترام الدين كمسألة إيمانية، ولكن بالوقت عينه فتح مجال النقد واسعاً للدين، هنا نصل إلى ضرورة الفصل بين الدين والسياسة وليس فقط الفصل بين الدعوي والسياسي في حركات الإسلام السياسي؛ ففي الفصل المذكور تتأسس الدولة بعيداً عن تسخير الدين ومحاصرة كل تشويهاته، والتأسيس لدولة حديثة في كافة مجالاتها.


الأدلجة والكذب وأن العلمانية تعادي الدين، يجب أن يتوقفا أيضاً، فليس من دين ظُلم في أوربا منذ أن انتهجت الشكل الديمقراطي كشكل للحكم، ووجود قضايا تمييزية ضد ممارسات دينية لا يتساوى بشيء مع أحكام الردة والقطع وسوى ذلك، وكذلك لا يتساوى مع أسلمة الدولة أو أخونتها، وبالتالي يقع على الإسلاميين وغير الإسلاميين التخلص من كل زيف بما يخص الديمقراطية والعلمانية والموطنة وحقوق الإنسان وحقوق المرأة، فغير الإسلاميين كذلك عادوها طويلاً ولأسباب لها علاقة بالفهم الستاليني للماركسية وكذلك بالفهم القومي الضيق وإدعاء الدفاع عن القضايا الكبرى كفلسطين وسواها؛ الديمقراطية كما النهوض بالاقتصاد وإيجاد أعمال للعاطلين عن العمل وإيجاد تعليم وثقافة حداثية، هذه وسواها هي قضايا أساسية للنهوض بشكل عام؛ هنا من الضرورة بمكان أن تكون السياسة معنية بتقديم البرامج بكافة شؤون المجتمع، طبعاً السياسة هذه ممكنة فقط في البلاد المحكومة بنظام ديمقراطي؛ وحين تغيب الديمقراطية يتدخل الدين والايديولوجيا والكذب والخلط بين الاستراتيجي والتكتيك في برامج الأحزاب السياسية.


في سورية، كان دور الإخوان المسلمين كارثياً بقضية الديمقراطية والمواطنة، فقد ساهموا ولا سيما في التيارات السياسة الممثلة للثورة بتسييدِ مفهومٍ طائفيٍّ لها، فكل معارض يُعرّف بطائفته، ويكون ممثلاً لها في التيارات تلك، وهذا ساهم في أسلمة الثورة، ولنقل دفع نحو ذلك؛ وإشارتنا لإخوان سورية لأنهم ولسنوات طويلة ساد مفهوم أنهم يريدون دولة مدنية ويعتمدون الديمقراطية وسوى ذلك؛ إذن كما تونس تذهب نحو عقد اجتماعي جديد، ونحو تأسيس دولة حديثة لمواجهة مشكلاتها المتنوعة ومنها الجهادية كذلك معنية كل التيارات السياسية في العالم العربي بالعمل من أجل فصل الدين والايديولوجيا بمعناها الزائف عن السياسة وتأسيس دولة حديثة، دولة لا تعادي الدين ولا تحبذ طائفة وبالضد من طائفة أخرى، وتتبنى خيارات اقتصادية تؤمن حاجات شعوبها في عالم العولمة الذي ينهب العالم بأكمله لصالح الشركات العملاقة ويدخل العالم كله في أزمات متعددة الأوجه ومنها عالمنا العربي؛ إذاً تأسيس دولة الحديثة أمر يتطلب الفصل المذكور ويتطلب رؤية كاملة للعالم المحكوم من تلك الشركات، ولإمكانية النهوض الوطني؛ دون ذلك سيكون الفشل من نصيبنا وربما سيفشل موضوع الفصل ذاته.


الرياح الطيبة هبت إذاً وما علينا سوى ملاقاتها بأخذ شهيق كبير ولفظ كل الزفير الإيديولوجي؛ فهل نفعل؟!

الوسوم

التعليقات

تابعنا على   +