أشكال ألوان| إياد شاهين... شاعر الظلال الواضحة

أشكال ألوان| إياد شاهين... شاعر الظلال الواضحة

على الرغم من الاحتفاء الذي لاقاه ديوان «كورتاج» للشاعر السوري إياد شاهين (1967-2013)، الذي صدرَ عن دار الطليعة الجديدة عام 2003 وأعيدت طباعتُهُ في العام 2008، إلا أنّ إياد ظلّ عكسَ كتابِهِ دائمًا، يعيشُ في الهوامش، في الظلال، حيثُ منها يستطيعُ أن يرى الأضواء بوضوح، يستطيعُ تمييزها وتفكيكها، بينما يرقدُ في أفيائهِ، مُرتاحًا ومُخلصًا لفكرة الابتعاد عن الأوساط الثقافية، لأسبابٍ كثيرةٍ، باتَت إعادتُها مملّةً غالبًا.


وإذا كان كورتاج قد حققَ ما يرجوهُ أي متابعٍ لمسيرةِ الشعر السوري، من حيثُ أنّهُ كانَ امتدادًا جديًا للشعراء المُعلّمين، جدةً وجمالًا وصداميةً، ومشغولاً بعنايةٍ فائقةٍ، متوخيًا الابتعادَ عنهم ونسيانَهم، حذرًا من السقوط في التكرار. وهوَ الذي وصفَ المدارسَ في لقاءٍ تلفزيونيّ سابق بأنها ذاتُ سمعةٍ وتاريخٍ سيّئَينِ في مجال التعليم، وأنّ أفضل طريقة لتكريم أي مدرسة هي القضاء عليها. وقد يبدو أنّ كورتاج حقق ذلكَ حقًا من خلال محاولةِ فكّ الارتباط مع شعر المدارس الشعرية لا السورية وحسب، إنما المدارس الشعرية عامةً، إن من حيثُ الشكل، حيثُ قد يجتمعُ شعرُ العامود، والتفعيلة، والنثر، في قصيدةٍ واحدة. أو من خلال المضمون، والذي قد يشي عنوانُهُ بهِ، كورتاج.


قد يصحُّ اليوم التفكير بعنوانِ الديوان، بلا فصلٍ بينَ الشعر والمكان، فالكورتاج تعريفًا، كما هو معلوم، يعني الإجهاض. وهنا بإمكانِنا، بعدَ أن ماتَ إياد شاهين، ولم يعد بمقدورهِ تفسيرَ مقصدِهِ لنا، أن نرتجلَ أفكارًا تتعلقُ بقصدِهِ في اختيار العنوان. فما الذي يدفعُ شاعرًا أن يُسمّي باكورةَ أعمالِهِ، إجهاضًا. ما الذي يجعلُ الولادةَ تعني الإجهاض؟!


أميلُ هنا، لتفسيرٍ لا يبدو بعيدًا عن تفكير إياد شاهين، وهو أنّ الولادةَ في بلادٍ مثل سوريا البعث، بكلّ ما تحملهُ هذه البلاد من قسوة واستبداد ولا معقوليّة أو منطقية، الولادة في مكانٍ مسوّرٍ بالعسس مثل هذا، لا يُمكنُ أن تعني أكثر من الإجهاض. فإياد، المولود في «عين فيت» في الجولان السوريّ عام النكسة، لم يكن على مبعدةٍ من ظروف المكان، ولم يكن نائيًا عن مشكلاتِهِ وأزماتِهِ وحزنه. هو طبيب الأسنان، الذي حينَ سُئلَ عما يجمعُ طبّ الأسنان بالشعر، قال: «أنا طبيب أسنان، يعني أنني على تماس يوميّ مع أمرينِ في منتهى القسوة: الألم، والفقر!». ولا يحتاجُ المرءُ في اعتقادي تلامسًا أشدّ وضوحًا من هذا، ليشعرَ بأنّ الولادة في سوريا إجهاضٌ محض!.


لقد خافَ إياد خلال حياتِهِ من العالم، استطاعَ في وقتٍ مبكّرٍ التمييز بينَ الضحيّة وقاتلها. وعرفَ من دونِ أن يدُلّهُ أحدٌ غالبًا، الطريقَ الموصلةَ إلى النجاة، سواء استطاعَ إليها سبيلًا أم لا. لكنّهُ عرفَها، هوَ الذي قال: «ماتْ... لم تنطلِ عليهِ الحياة».


هو الخائفُ الذي فرّغَ هلعهُ واشمئزازهُ في جملٍ قصيرة، كثيفة وصادمة:


«استيقظتُ في الصباح


وذهبتُ إلى المغسلة


وجدتها عالية جداً


فعدتُ إلى البالوعة».


في العاشرِ من شهرِ تموز هذا، أي بعد يومين تمامًا، يكونُ قد مضى على رحيلِ إياد شاهين ثلاث سنوات. العالمُ يزدادُ وحشيةً، المعادنُ تبدو واضحةً أكثر من أي شيء آخر، الحياةُ تبدو شاقّة، والاستمرار ليسَ سوى ضربًا من ضروبِ الملحميّة.


أمّا الشعر، فإنهُ وياللخسارة، يحاولُ النجاةَ، لكن بأدواتِ الحربِ نفسِها. بالقوّة، بالصلابة، باليقينية، يحاولُ الشعرُ النجاةَ من الموتِ بالأدواتِ الحادّة، التي تكفي لوحدِها، وبدونِ أيّ حروب، لتقتلهُ أبدًا.

الوسوم

التعليقات

تابعنا على   +