أشكال ألوان| كثير من النجوم، قليل من الأخلاق

أشكال ألوان| كثير من النجوم، قليل من الأخلاق

في لحظة مبكرة من الوعي كان ذهني يتمحور على أن ثمة عروة وثقى تربط الفن بالأخلاق، ومع مرور الوقت، وفيما كان وعيي يسير برشاقة بليدة ليعبر مناطق الأفخاخ، صرت أرى إمكانية، لا بل واقع أن يتمرغ الفن في وحل الحاجة، أو يسقط في فخ الضرورة المتعددة المستويات، السلطة والسوق والسياسة والاقتصاد، إضافة إلى نظم الثقافة السائدة، وكأنه سقوط في أنظمة مغلقة للوجود، سقوط في بئر عميقة، صار الفن كمن يحمل حاجاته في كيس مثقوب يكتشف حين وصوله إلى البيت أن ما تبقى ليس سوى القليل.


هكذا انزلق فيما أرى نحو ضرورات منها الحقيقي ومنها الزائف، وإلى ذلك كان يرى إلى بعده الأخلاقي وهو يترنح مرة، ومرة يكاد أن يسقط في سياق حضارة أسقطت حاجتها الأخلاقية من كيسها المثقوب. في معرض نقده للحضارة يقول برغسون «كيف حدث ونسينا أن الأخلاق هي جوهر الحضارة».


صرنا أمام خفض للقيمة الأخلاقية في حقل الفن، وتصعيد لقيم مستعارة وزائفة، حيث انحسرت القيمة وزحف التسويق، تراجع الطرح وتقدم المشهد، وأخذ المعنى يترنح في المناخ المشهدي وانتقل متدحرجاً ليدخل في إطار الصورة الخانقة التي أحلّت النجومية كقائدة لهذا النسق، وبوصفها المولدة للشهرة والمال والسلطة والنفوذ، محل الحقيقة الأخلاقية.


لقد تراخت شهادة الفن عن العالم وتقلصت فرص الاشتغال الحقيقي عليه لإحداث خرق كبير في أنظمته المستغلقة، باعتبار ما يملك الفن من فيوض جمالية ينبغي حشدها.


صار العالم يملك الكثير من النجوم والقليل من الفنانين، وإذا كان الفنان هو شاهد على العالم فإن النجم هو جندي المتاهة الذي يعمل على توطيد أنظمة السلطة والسوق والمال والشهرة، والذي أصبح مندرجاً في استراتيجية الهيمنة والسيطرة المرئية واللامرئية على الحياة والإنسان.


الفن الذي ينظر إليه بوصفه لحظة في الروح وأحد رهاناتها لبلوغ ذاتها عبر التاريخ، صار متعة منقوصة من الأخلاق، صار مغيب المضامين وانخفض رهانه على إعادة توطين المعنى عبر الهدم وإعادة التملك في المستوى الجمالي والأخلاقي، لقد انزلق نحو مشهدية فادحة.


أكثر ما يتجلى ذلك على صعيد الفن المشهدي (السينما- الفيديو كليب- الدراما التفزيونية) حيث نجد أنفسنا أمام حشد من النجوم المحليين والعرب والعالميين، وكأن العالم يعيد إنتاج حاجته للبطل الملحمي أو التاريخي أو القومي، عبر خلق أسطورة البطل النجم في عالم الفن المشهدي وصار النجم يمتلك الملايين والقصور والسيارات الفارهة، وربما حتى الجُزُر.


يمتلك النجوم كل شيء دون الموقف الأخلاقي والإنساني (إلا من رحم ربي) تجاه الفقراء والضعفاء والمهمشين والضحايا والنازحين واللاجئين، وكأن النجم يعتقد ألّا واجب عليه تجاه العالم المحيط، هل يرى أن النجومية تجبّ ما قبلها وما بعدها، بما في ذلك الموقف والمسؤولية تجاه أبناء الوطن أو الإنسانية، هل يعتقد أنه يمتلك مطلق المشروعية والحق في أي سلوك يسلك أو موقف أو لا موقف، وكأنه ينتمي إلى عالم الأباطرة المعتقدين بأنهم مؤيدون بحق إلهي؟


هل يفسر الخوف من السلطة أو عليها وعلى المال والامتيازات والظهور هذا اللاموقف، هذه اللامبالاة عند الأكثرية، دع عنك ما يتخذه البعض من مواقف لا تمت إلى الإنسانية والأخلاق بصلة، بحكم قاعها المذهبي والطائفي المقيت.


نمتلك في العالم العربي أكبر رصيد من مآسي العصر (حروب- نزاعات) ونمتلك كذلك جيشًا من النجوم يمتلكون بدورهم المليارات، هل سمع أحد أن نجماً من هؤلاء قد تبرع بشيء من مداخيله لمساعدة ضحايا حربٍ أو نزاع، علماً أننا أمام جيوش جرارة من القتلى والمعوقين والنازحين واللاجئين و...


كثيراً ما سألتُ نفسي ألا يخجل النجوم العرب من أنجلينا جولي التي تنفق ثلث عائداتها على ضحايا النزاعات والكوارث حول العالم، أعتقد أن أنجلينا بين قلة غيرها، قد أعادت بعض الاعتبار لمحتوى أخلاقي أخذ يضمر في سلوك النجوم.


عند هذه الإنسانة تجسّرت هوة عميقة بين سلوك الفنان وإنسانيته ومواقفه الأخلاقية تجاه العالم. لم تكتف أنجلينا بما تبرعت به من أموال وبما بذلته من جهود في إطار عمل المفوضية العليا للاجئين، بل صامت تضامناً مع جوع الجوعى وفجيعة المفجوعين، إذ تقول «كيف آكل وهم لم يأكلوا».


أعتقد أنها علامة فارقة على صعيد علاقة النجم بالعالم، وإحياء بعد أخلاقي أخذ يضمر في تجلياته السلوكية، إن في عالمنا العربي أو حول العالم، وإنها لعلامة فارقة في ذاكرتنا نحن السوريين، فسلام من الله عليها.

الوسوم

التعليقات

تابعنا على   +