أشكال ألوان| عن إجازة العيد في حلب

أشكال ألوان| عن إجازة العيد في حلب

في الطريق إلى حلب تمتلئ سماؤك بالشهداء، وأنت تعدُّ العدة لاحتضان الأزقة والأرصفة، ويعتملُ في فمك طعم الكعك والمعمول بالجوز، يعبقُ الجو برائحة الدم ودمع الأمهات وأصوات الحصار القادم.


أمام بناءٍ تصدعت أركانه كان الأطفال يمارسون عيدهم على عجل، وكانت المراجيح معلقةً بالنجوم، وكانت أغاني الثورة قد أخذت مكانها كبديلٍ شرعيٍ لموروث «يا حج محمد... يويو». لعل الأطفال خائفين من دلالات الطفولة القديمة، فكل أغنية قديمة تمثل جرحاً والطفولة المترددة باتت عالقة بين عقدة الذنب الإلهية، وصوت الطائرات القادم من السماء على شكل موت.


المدينة الخجلة من مظاهر الفرح تعيشُ عزلتها وهدوءها الداخلي، وتكتفي بعد شواهد القبور الوحيدة. القبورُ التي تعاني أيضاً حرمانها من الزيارة كبدعة تودي بأهليها إلى الهلاك لم تستمتع بطعم «الملبس»، وتسقي عطشها بالماء والريحان، فأعلنت وقوفها على الحياد، حتى الأموات لهم حقهم في الإضراب عن الفرح.


الأمهات اللواتي انشغلن بصناعة الطعام وتحضير المائدة لأيتامهن جلسنَ بعيداً، استندنَ على برودة الحائط تنتظرن أن يُقرع الباب، واقتطعن من حصة الفرح ما تختزنه عبارة «وفرحة بلقاء ربه»، ونسينَ عادتهن بالثرثرة.


تكبيرات العيد هي من فتقت الجرح وأمسكتني بيدي كطفل صغير يقف على باب أبيه، ينتظر سعاله معلناً ابتداء يوم العيد، أتقدمُ أخوتي كوني الأصغر لأطبع على يديه قبلة عجلى وجملة عتيقة «كل عام وأنت بخير»، وأنتظرُ حصتي من العيدية بعد أن ينتهي طابور التقبيل الطويل، يدسُّ في يدي قطعة نقود فأشعر بطعم الحلوى يسيل على لساني قبل أن أشتريها، ويحملنا معه إلى صلاة العيد.


دوماً كان هناك رجلٌ يعطر أيدي الجالسين في المسجد بعطر قوي يفج رأسي الطفولي، كجالسٍ على شوكٍ أنتظر الإمام أن ينهي صلاته كي أنطلقَ في سماء العيد، الإمامُ الذي يذكرنا دوماً بصلة الارحام والتسامح والمغفرة.


يا سيدي الشيخ، أحد عشر عيداً مضى وما زالت حصتنا من التسامح كثيرٌ من الشهداء والبيوت المهدمة والدمار وقتلِ الفرح. يا سيدي الشيخ، ألم تخطب خطبة العيد على مسامع القَتَلَة والوزراء؟ وفي كل عيد يتحفنا «المفدى» بحضوره المكرم ليصلي العيد ويستمع إلى نصائحك ودعائك للرئيس والبلد والقَتَلَة والطائرات والجيش، وتنسى في زحمة دعائك أن تذكره بأخي المعتقل، وبصلة الرحم والتسامح.


العيد بدا بائساً لم يوقظ المدينة، وأبي قد مات وغاب سعاله وامتزجت تكبيرات العيد بصوتِ القذائف وحرقةِ أمي. الدم قد ملأ الشوارع، والصغار سيخبرون ربهم بكل شيء، سيغنون هناك حيث المراجيح معلقةٌ بالنجوم، والحلوى لا تحتاج إلى قطع النقود ولا إلى طريق «الكاستيلو»، وكعكُ العيد لا يحتاج إلى الأمبيرات لتشغيل الفرن، ولا إلى سمن الإغاثة.


صوتٌ قادمٌ من بعيد، وهتافٌ راح يأخذ طريقه إلى قلوبنا أعادني إلى الحياة من جديد كحبة قمح. هو العيد يوم تنظر إلى المعركة المحفورة على جدران المدينة المهدمة وتعانق صوتها في الحياة فتثأر للذاكرة، هو العيد يوم تحاكي الحريةُ طعمَ الخبز وألعابَ الأطفال والثيابَ الملونة.


صوتٌ ينطلق من قلبك: «إذا كان علينا الموت فلماذا لا نموت سعداء؟»، تستوقفك يد أحدهم: «لنرحل». تنظرُ في الوجوه المليئة بالتناقضات بين الإصرار على البقاء والإصرار على الرحيل، كيف يحدث أن تجد في داخلك مجمعاً للنقائض في وقتٍ واحد؟ كيف يمكن أن تعيش هذه المدينة كل هذا الاعتياد؟

الوسوم

التعليقات

تابعنا على   +