أشكال ألوان| غودو في شعبة التجنيد!

أشكال ألوان| غودو في شعبة التجنيد!

كادت حياتي أن تكون سيئةً لو أنني وُلدتُ أنثى في سوريا، وفي مثل هذه الظروف، لكنني ذكر، ولذلك أستطيع القول إنني أعيش الحياة الأسوأ على الإطلاق.


لطالما وددتُ البوح بحسدي للأنثى، ليس فقط لأنها حلمٌ رقيقٌ يُلمَسْ، بل لأنها معفية من دخول شعبة التجنيد أيضاً، هذا الدرك من الجحيم الذي يلي سَقَر، والأشبه بطابقٍ مرصود بالأشباح في فيلم رعب، غير مُتاحٍ على أزرار المصعد، ولا يصله إلا الذكور من السوريين.


كل تلك الحرائق، حكرٌ لنا وعلينا، يا للنعمة والبطر!


أذكر ذلك جيداً بينما كنت محشوراً في المكرو الذي سينقلني من البرامكة إلى المزة حيث تقع شعبة تجنيدي، وكنت أودُّ أن أضيف وصفاً للشعبة كـ«القذرة»، لكنني سأبدو كمن يفسر الماء بالماء.


خلال ثلاثة أشهرٍ سألتقي بالعديد من الناس على درب جلجلتي بين جرمانا – البرامكة – المزة، أحمل صليبي الذي أضحى عبارة عن مجموعة أوراق مجلدة نسميها دفتر الخدمة، وهذا التغيير في الأغراض يُعزى إلى اعتبارات عسكرية وأخرى متعلقة بمسيرة التطوير والتحديث، كما سينكرني موظفو شعبة التجنيد آلاف المرات، وهو الأمر الذي ما كان حتى ليهوذا أن يقوى على فعله، أما«قيافا» رئيس الشعبة، فكان يلزمه نحو المائة ألف ليرة سورية حتى يتخلى عن دوره التاريخي في غسل يديه من دماء الفقراء أمثالي.


جميع من صادفوني في تلك الفترة أكدو لي أن هذا العام 2015 هو عام برج الجوزاء، برجي، وبالرغم من أنني لا أؤمن بالفلك حتى أنني عرفتُ برجي مصادفةً، ذلك أننا غير قادرين على التنبؤ بما سيحصل على جبهة جوبر، التي تقع على كوكب الأرض، وتبعد عنا بضعة كيلو مترات، فكيف لنا أن نراقب السماء بكل تلك الطمأنينة، إلا أنني كنت أصرخُ بأن عليهم قراءة برج رئيس الشعبة وليس برجي، هو صاحب القرار ليس أنا، هناك فروق في الترجمة بين السماء والأرض في النهاية، لاسيما إن كانت هذه الأرض، سوريا.


من الناحية الروتينية الأمر بسيط، مجرد تقديم للطلب مُرفق بأوراق تثبت دراستي في أحد الجامعات التي تعج بالشبيحة المسلحين، المتحرشين بالفتيات، أو الذكور حسب الحاجة. وعلى هذه الأوراق أن تكون ممهورة بتوقيع بعض الموظفين الجامعيين والعسكريين، وبذلك يُكتب لي عامٌ إضافيٌ من ترقب الموعد التالي للعبور من هذا المطهر نحو مدنيتي من جديد. يبدو أن سيزيف أبٌ لسلالة سكنت سوريا، ويبدو أن صخرته هي حصتنا الوحيدة من تركته!


أمام شُعبَتَيْ ساروجة والصالحية، أرتالٌ من الشباب التي تتكرر يومياً بذات الوجوه بانتظار خلاصها، دون أن يُتاح لأحدٍ منها أن يتجاوز عتبة الشعبة، حتى غدا دخول جمل من خرم إبرةٍ أكثر يسراً من تجاوز طالبٍ جامعي لهذه العتبة، وساد لدي اعتقاد بأنني سأرى نهر الفرات في الرقة قبل رؤيتي لباب مكتب رئيس الشعبة، أريد أن ألمسه يا الله، تَبَرُّكاً ليس إلّا.


أيُّ رعبٍ هذا أن ترى المجزرة حيّة؟! أن ترى جثثها تدخن، تشتم وتضحك، مجزرةٌ تصطف جثثها في طابورٍ طويل، تتحسس أرساغها المقيدة وأعناقها المغلولة دون أصفاد، تتحسس أشلائها المتناثرة على شكل جسدٍ بشري كامل.


يُعرّف الجرجاني الهوية بقوله: إنها الحقيقة المطلقة المشتملة على الحقائق اشتمالَ النواة على الشجرة في الغيب المطلق. وتلك هي هوية المقاتل المفترض، الصدور احتمالات، تشتمل أهدافاً لرصاصٍ سيثقبها حتماً.


رئيس شعبة التجنيد المُتَقَزِّزُ من نعومتي، رمى دفتر الخدمة أمامي على الطاولة، رفض منحي تأجيلاً أو حتى ورقة تسهيل عبور ريثما تنتهي الإدارة العامة للقوات المسلحة من دراسة ملفي، وبالرغم من دراستي في جامعة دمشق والمعهد العالي للفنون المسرحية، ومطابقة عمري للشروط «القانونية»، إلا أنه طلب مني ساخراً أن ألجأ لرئيس شعبة التجنيد العامة الذي أعلن هذه القوانين كي يمنحني تأجيلاً، مؤكداً أنني لم أعد صالحاً للحياة المدنية. لاحقاً سيوقع لي هذا الشيطان نفسه على أوراقي بعد أن اعتصرَ وعصابته كل مافي جيبي، بحيث أصبحُ أكثرَ خفةً وليونةً لأرشح من مصفاة القانون وحدود البلاد، خلال مدةٍ أقصاها ستة أشهر.


أفكر في البلاد التي سأقصدها، بالشباب هناك، بشخصٍ ولنقل مثلاً أن اسمه صمويل بيكت، إيرلنديٌ يقف في طابورٍ بمكانٍ جافٍ كشعبة التجنيد، مكانٍ يقع في منتصف أرض الأحلام اللدنة التي تدعى أوروبا، يُصارح نفسه، من السخف حقاً انتظار غودو بعد أن سحرته عبثية شُعَبِ التجنيد، هناك فقدناه إلى الأبد، وهو يحاول فك أحجية الأوراق الرسمية واكتشاف الطابع المفقود، ثم يعطي لنفسه ولغودو خاصته دوراً في المجزرة.

الوسوم

التعليقات

تابعنا على   +