أشكال ألوان| الموت قليل الهيبة

أشكال ألوان| الموت قليل الهيبة

انتهت بطولة الأمم الأوروبية لكرة القدم في فرنسا قبل أيام، ولم يُسجَّل خلالَها - خلافًا لما كانَ متوقعاً - أيّ اعتداءٍ إرهابيّ يُعكّرُ صفوَ المنظّمينَ أو الفرق المشاركة، أو حتى، وقبل كلّ شيءٍ، الجماهير التي توافدت إلى فرنسا لتشجيعِ منتخباتِها.


لكنّ أسبوعًا لم ينتهِ، قبل أن تعودَ فرنسا لتشهدَ موجةً جديدةً من موجاتِ العنفِ التي باتت تسمُ العالم هذه الأيام. فتكونُ مدينة نيس في الجنوب الفرنسيّ هي الضحية هذه المرة. وليسَ الفارقُ الوحيدُ في اعتداءات نيس الإرهابية الأخيرة، في أنّها (أي الاعتداءات) لم تضرب العاصمة باريس، التي باتت من أكثر العواصم الأوروبية عرضةً لمثل هذه الهجمات في العامين الأخيرين. إنما ثمّة اختلافٌ أكثر أهمية وأشدّ قسوةً بالمقايسةِ مع الهجمات الإرهابية «المتعارف عليها»، وهو يكمن في طريقة تنفيذ الهجوم. إذ لم يتكبّد المهاجمونَ هذه المرة عناء حمل السلاح، أو التضحية بعدد كبير من العناصر والكوادر، لا سيّما وأنّ السلطات الأوروبية عمومًا بدت أكثرَ حذرًا وتشددًا في المراقبة والتفتيش والتدقيق في كلّ ما من شأنِهِ أن يثير ريبَتها إزاء الإرهاب.


عنصرٌ واحدٌ، يقودُ شاحنةً كبيرة، في شارعٍ ذو طابعٍ سياحيّ مثل شارع «برومناد ديزانغليه» حيثُ نُفّذت العملية، بالتزامنِ مع تواجدِ عشرات الآلاف من الفرنسيين المحتفلينَ بذكرى اقتحامِ الباستيل واستقلالِ بلادِهم، فيدهسُ العشرات من المواطنين، محققًا إصاباتٍ تبدو أكبرَ بكثير من أي اعتداءٍ مسلّحٍ يُمكن أن يُنفّذهُ شخصٌ بمفردِه.


وإذا كانت التساؤلاتُ حيالَ منفّذِ العمليّة، والجهة التي تقفُ خلفه، وحملات الاستنكارِ والشجب، هي ما يطغى على المشهدِ في الساعات الأولى التي تتلو الهجوم، إلا أنّها تبقى أشياء ثانوية قياسًا بالأثر الذي تخلّفهُ عمليةٌ مثل هذه. والأثر هنا لم يعد مقتصرًا على عدد الضحايا، الذي هوَ كبيرٌ جدًا ومؤلمٌ بدونِ شكّ، إلّا أنّ الحزنَ على الأموات هو حزنٌ على ماضٍ، لا يحتاجُ أكثر من لحظاتٍ بعد مفارقة الأحياء حياتهم حتى يُعتبرَ قد مضى فعلًا. الأثر الأشدّ بؤسًا في مثل هذه الحالات يقعُ على من بقي حيًا. الأثرُ على الغدِ لا على الأمس. إذ من الممكنِ أن يتجنّبَ الناسُ بطبيعة الحالِ الأماكنَ أو التجمعاتِ البشرية التي يُمكن أن تكون مسرحًا لجريمةٍ جديدة محتملة، لكنما الناس لن يكفّوا عن المسيرِ في الشوارع والأسواق وإن لقضاء حاجيّاتهم وحسب. وهذا ما يُميّزُ عمليّة نيس الأخيرة. نوعيّةُ إرهابِها.


ومن المُحتملِ أن تخلّفَ هذه الهجمة، وبسبب نوعيّتها تحديدًا، أثرًا لدى السلطات الفرنسية والأوربية عمومًا، يُمكنُ أن يكونَ الأشدّ قسوةً وتشددًا، في وقتٍ لا يحتاجُ العالمُ فيه أصلًا لمثلِ هذه الاعتداءات ليُظهرَ تطرّفهُ الذي يسمُ العصر ككل.


مما لا شكّ فيهِ أن الموتَ هو الموت، هو مفارقة الحياةِ بصرفِ النظرِ عن الآلية، لكنّهُ يومًا بعد يوم، يصيرُ مقززًا أكثر، بلا قيمةٍ كبرى، ولا يحتاجُ طالبُ موتِ الآخرينَ إلى وسائلَ متطوّرة أو صواريخ ذكية وغبية، أو حتى إلى رصاص سلاحٍ فرديّ، ليردي «أعداءهُ» قتلى. باتَ الأمرُ أكثر بساطةً من ذلك!.


قبلَ سنوات، كانت الجملةُ التي تقالُ إذا أرادَ شخصٌ أن يُهدد شخصًا آخرَ ويُرهبهُ في بلادِنا: «حقّك رصاصة». لكنّ العالم هذه الأيام يبدو أشدّ حرصًا على الرصاص من ذي قبل، وأقل حرصًا على الحياة بطبيعة الحال. لم يعد يحتاجُ الإرهابُ إلى رصاصة، يكفيهِ شاحنة واحدة يقودُها سائقٌ واحدٌ، في مشهدٍ يبدو طبيعيًا جدًا، لتحدث الكارثة.


لم يعد يحتاجُ إلى براميلِ ديناميت أيضًا، فقد سبقُ ورمت طائراتُ النظام السوريّ الحربية كتلًا إسمنتيةً تُستخدمُ كمنصّفاتٍ للطرقاتِ عادةً، على منازل وأبنية السكان، وهيَ أقلّ كلفةً من براميل المازوت المحشوّة بالحقد والديناميت.


لقد باتَ الموتُ عميمًا، ويوميًا، ومتعدد الأساليب، وباتَ قليل الهيبةِ والتكلفة أيضًا!.

الوسوم

التعليقات

تابعنا على   +