أشكال ألوان| ليلة سقوط القناع

أشكال ألوان| ليلة سقوط القناع

في ليلة سابقة: ليلة كسر حاجز الصوت


سيطرت العبر والعظات المستقاة من واقع حال انقلابٍ أفشلته رغبة العيش دون أوامر عسكرية على أفئدة السوريين، الذين لطالما حلموا بشيء يشبه ذلك، أو بشعبٍ أو بإرادةٍ أو بحرية، بمستوىً أقل مما مرَّ خلال خمس ساعات مقارنة بخمس سنوات فاضحة.


نظر لنا كثيرون على أننا تركنا الاهتمام بشؤوننا الخاصة لنتحدث بالأمر أكثر من أصحابه المعنيين به، لكن ما أغفله هؤلاء أن هناك دائماً ما يعنينا، فمثلاً «سوريٌ قاد الدبابة وأعادها» يحاكي النزعة الطهرانية ذاتها لنبأ الرجل الذي أعاد المحفظة، والآخر الذي أعاد 150 ألف يورو، وتلك التي أعادت «إسوارة العروس المشغولي بالدهب». وبطبيعة الحال، لا داعي لذكرِ ما يعنينا من تداعيات ما يمكن أن يحدث لثلاثة ملايين لاجئ سوري مقارنة بهذه النزعة.


في التوقيت ذاته تأتينا نظرات الأطفال الذين يحلّقون سريعاً وبعيداً جداً عن حلم الوطن الذي وعدناهم به، تتشابه أجساد الأطفال والإرهابيين في عين القذيفة في سائر المدن السورية، وتتشابه أيضاً الأوطان والدمى في لحظة الرغبة بعناقها قبيل الوداع بقليل. لا وقت يسمح بانتظار الوعد، ولا شيء يعنينا هنا كما هناك، لا فخر ولا أمل بشيء، هنا فقط يعنينا ما تُلزمنا به دساتير البلاد المعسكَرة: المكافأة فردية والعقوبة جماعية.


شابٌ «داعشيٌ» كما وصِفْ، في مدينة ألمانية، تتشابه رقاب الأبرياء والإرهابيين أمام حدّ ساطوره. وآخر في مدينة فرنسية أيضاً تتشابه الأجساد أمام عجلة حافلته، من الوارد جداً لكليهما أن يتوها في اختيار ضحاياهما، فيقتلا المسلم/ة والمسيحي/ة على حدٍّ سواء، ولكن من الضروري جداً أن لا ينسيا كلمة السر: «الله أكبر»، في بلادٍ لا تفقه من العربية سوى هذه الكلمة، وإلا لن يكونا خبراً عاجلاً بالمطلق، بل مجرد مرضى نفسيين. أما ما يعنينا هنا، من حيث لا يعنينا، أنهما يجب أن يكونا عربيين أو بالنيابة عن العرب. وإذا لم يكونا، فعلى الأقل يجب أن يكونا قادمين من الشرق، الأقصى أو الأوسط أو الأدنى، لا مشكلة لكن من المهم جداً أن يكون «شرقاً».


تمرُّ الشهور، وأحياناً السنين، ويبقى اللاجئ السوري «المرحب به دوماً» ينتظر، حتى يكاد يصبح الانتظار عادته اليومي وفنجان قهوته في صندوق البريد الصباحي، تحدثني صديقتي المحامية الألمانية عن واجب الاطمئنان بتسليم أقدارنا «غير القانونية» لبلاد حقوق الإنسان القانونية، في الوقت ذاته تتحدث صحافة هذه البلاد عن الرأفة بالذين قاموا بالانقلاب وتسببوا بمقتل المئات في بضع ساعات، وعن التخوف عليهم من مصيرٍ انتقامي. على هامش تلك الساعات يُقتل 200 طفل وامرأة في منبج بطائرات أصحاب نظرية الرأفة، وفي ثقبٍ أسود ضمن مجال الرؤية نفسها، يُذبح شاب مريض لانتمائه لطرفٍ دون آخر في مخيم حندرات. يمتصُّ الثقب الأسود هالة الاختلافات حول قصة قتله التي جاءت على حين غدرٍ لـ 200 ضحية، لكنه لا يستطيع امتصاص بشاعة الذبح في حد ذاته، لينتهي الأمر بتلك البشاعة قيئاً يندلق من ثقب أسود في عقولنا.


لا يعنينا شيءٌ هنا سوى الانتظار الآني غير المجدي.


في ساعة كسر حاجز الصوت، مساء يوم الجمعة الخامس عشر من الشهر السابع، كاتبةٌ من تلك البلاد تقول: «تجاوزوا كل خلافاتهم من أجل وطنهم، أتُدركون معنى كلمة وطن؟»، وكأن سؤالها يثير حميّة الإثبات. تصدر الإشعارات «صوتاً» لصديق سوري يؤله الرئيس المُنتخب في بلادها، وصديقةٌ تركيةٌ تستعيدُ الأمل بسقوط الرئيس المنتخب نفسه، لكن بوصفها له على أنه «ديكتاتورٌ مُنتخب»، وأخرى تخفي الكتب السياسية التي تملكها في المطبخ خوفاً من الاقتحام المفاجئ، ومن معاقبتها ميدانياً لأنها تعلم! شخصٌ يتمدد أمام آلة القتل ويوقفها بجسدٍ أعزل، وجنديٌ يُقالُ إن رأسه قُطعَ فوق جسر البوسفور، لينتشر الخبر في زحمة الأخبار، ويتبين بعدها أن قطع الرأس كان في بلادنا إياها... سوريا.


أثناء انشغالهم جميعاً بإثبات إدراكهم لحقيقية معنى كلمة «وطن»، ينشغلُ الوطن نفسه بعمل جراحي طارئ يسمى اعتباطاً بالقانون، غالباً ما تكون هذه الجراحات الاستئصالية وسيلةً لطمس الطوبوغرافيا بوجوه عدّة مُخفِيةً ملامحها الأصلية المُفتضحة. «الطارئ» هو سرقة الملمح من أصل الأشياء، إنه الشيء الوحيد الذي يجعلنا نشعر بوحدة الحال والتشابه بعيداً عمّا يعنينا حقاً، فبيننا كسوريين وبين الطوارئ 40 عاماً من عشرة العُمر، ينطبق علينا جميعاً في حضرة «الطارئ» تصريح رئيس البعثة في قصة الكاتب التركي عزيز نيسن «مهمة وطني» حين قال: «نعم شرطتكم مسيطرة، لكن لصوصكم أكثر سيطرة منهم!».


ألوانٌ وصورٌ تتغير حسب حدّة الحاجز المكسور، غنيٌ عن الذكر أن الموت في بلادي لم يلفت انتباهه شيءٌ مما ذُكِر، ما يعنينا هنا هو أن ساعة كسر حاجز الصوت جعلت أمنيةَ صمتِ غثاءِ السيل أمراً مستحيل التحقق.



في ليلة قادمة:


لربما، أو لعلي أتمنى فقط، أن تكون ليلةَ سقوط القناع، غير أني أتساءل: أي وجهٍ سنكتشف حينها أننا أكثرُ شبهاً به من بين كل هؤلاء؟

الوسوم

التعليقات

تابعنا على   +