أشكال ألوان| تركيا بين أوروبا والشرق الأوسط وشنغهاي

أشكال ألوان| تركيا بين أوروبا والشرق الأوسط وشنغهاي

على ضوء الاضطرابات المتزايدة في الشؤون الدولية، والدور المتراجع للأمم المتحدة، هل سيتحدد مستقبل تركيا بعد تداعيات فشل انقلاب الجيش على أردوغان، وصدام أردوغان مع كبار قياداته ومحاولة تطويقه للنافذين فيه: باستئناف العلاقة مع منظمة شنغهاي الناهضة التي تنتظر دوراً انضمامياً مميزاً من تركيا، أم أن تركيا ستفضل الاستمرار في حلف الناتو العجوز، وبدون مزايا استراتيجية تلبي طموحاتها؟!


على تركيا أن تحسم أمرها طبعا، وتحدد سكة لقطارها بدون تردد أو انفصام. فليس أمام تركيا بمختلف اتجاهاتها، العلمانية والإسلامية والعسكرية، سوى 3 طرق لا رابع لها في المعادلة الدولية حاليًا ومستقبلًا: الشرق الأوسط الكبير، أو العالم الأوروبي، أو أوراسيا.


ومن هنا يمكن القول إن الصراع الأكثر حساسية فيها هو بين التيارين الأول والثاني بدوائرهما المتعددة، بينما يعلمان جيدًا أن الصدام الكامل مع الولايات المتحدة ليس من مصلحتهما الآن، خصوصاً مع ضرورة أن يأخذا في الاعتبار مجمل الضغوط والتحديات والملفات الداخلية والخارجية المتشابكة التي تؤثر فيها علاقتها مع أمريكا، وعلى رأسها التحديات السورية والكردية والعراقية، والضغوط الإيرانية والروسية، والملفات الأرمنية والقبرصية والقوقازية.


وبالطبع؛ فإن داخل التيارين قطاع واسع ضد السياسات الأمريكية الإملائية، وهؤلاء لهم تصورهم الخاص والديناميكي للنظام العالمي الذي يتشكل، كما أنهم مع تفعيل الطموح التركي الذي لا ينحصر داخل الأناضول. لكنهم لايريدون لتركيا أن تبقى تابعًا مطيعاً على نحو استلابي مفرط، أو بمثابة حصان طروادة لمشاريع الآخرين فقط.


من ناحية أخرى: صحيح أن حزب العدالة والتنمية يجمع بين العلمانية والدين، إلا أنه من المحال أن يجمع بين أحلام أتاتورك وأحلام السلطان معاً!


أما تركيا فهي في المجال الأوروبي والشرق أوسطي والآسيوي دفعة واحدة، والحال أن التيار المنحاز لأوروبا، يقلق كلما تعززت العلاقات العربية التركية الإسلاموية والعكس أيضاً.


إلا ان هناك هواجس تاريخية ثقيلة أصلًا مازالت تسيطر على العلاقات العربية التركية، كما على العلاقات التركية الأوروبية. وبمقابل أن تركيا تاريخياً كانت أول دولة مسلمة تعترف باسرائيل، فلا زالت بين الجانبين مصالح مشتركة على أكثر من مستوى.


والشاهد أن لتركيا ثأرًا مع جميع الأطراف المعنية إقليميًا ودوليًا -إذا جاز التعبير- كما أن الجميع لديهم ثأرًا مع تركيا. لكن رغبة تركيا وسط كل هذه الظروف تتلخص حالياً في عدم تعرض مصالحها الاقتصادية للخطر.


وإذا جئنا إلى النزعة القومية التركية، فلطالما كانت محددًا أعلى للهوية الرسمية، بينما غالبية الاتجاهات العلمانية والإسلامية والعسكرية استمرت تتحرك في إطارها الجامع رغم الاختلافات في المساعي والأهداف والأدوات.


أما قضية الأكراد باعتبارها أكبر المشكلات التاريخية داخل الجمهورية التركية، فإن من حقهم اعتبار أن اعتماد مفهوم «التركي» في التعبير عن الهوية المواطناتية مفهوم تقسيمي يضرب فكرة الجمهورية التي يجب أن تحتضن الجميع.


وكذلك ما زالوا يرون بأن قضيتهم سياسية واجتماعية وثقافية، لها أبعادها المباشرة المرتبطة بشأن الهوية وتداعيات صراعاتها في المجتمع.


بل إن هناك من يعتقد أنه في ظل عدم تحقق المواطنة كهوية مشتركة بين الأتراك والأكراد داخل دولة واحدة، يبقى الأفضل للجميع وجود دولتين لأمتين حرتين متجاورتين.


وهكذا، يستمر سؤال المسألة الكردية في تركيا مفتوحًا: هل يريدون حلا عبر تحقق قوميتهم كمجتمع خاص أم عبر الإندماج والتكامل مع المجتمع الذي يعيشون معه.


وفي الحقيقة ليس الهم الأوحد لتجليات نضالات الأكراد هو تقسيم وحدة أراضي الجمهورية التركية، بل أخذ ضمانات دستورية بحقوقهم السياسية والمدنية الطبيعية العديدة.


وبالتأكيد يبقى رفع السلاح والعنف هو الطريق المسدود، لأنه أبرز عقبة أمام الحل المدني والديمقراطي لهذه القضية المعلقة.


بمعنى آخر فإن الاستحقاقات الداخلية في تركيا تتداخل بالضرورة مع الوضع الإقليمي واستحقاقاته.


وهناك خصوصيات ومشكلات إقليمية تركية موروثة ومستجدة، على أن سكة تسريع الإصلاحات السياسية والحقوقية من شأنها أن تجعل تركيا تنتقل من العالم الثاني إلى العالم الأول؛ في حين ان السكة الأخرى ستجعلها تنتقل من العالم الثاني إلى العالم الثالث فقط!


وأما سكة إقامتها علاقات متوازنة وجيدة ومؤثرة مع الجميع، فهي مجرد وهم كبير لن يمنحها فرصة التحول الفارق بقدر ماسيجعلها في حالة من التيه الذي لن يعزز داخلها السلم والاستقرار لأنها ستظل مركزًا أساسيًا للتجاذبات مالم تحسم خيارها المستقبلي.


وتلك هي المعادلة الأصعب لبلد مسلم وديمقراطي ومؤسساتي، يتوجب عليه أن يصل للمقاييس الأوروبية ويحقق تحديثًا وتغييرًا وتنمية تطول كل فئات المجتمع.


وإذ تبدو الحاجة ضاغطة لذلك؛ فيمكن القول أيضًا بأن تركيا يمكنها أكثر من غيرها أن تؤكد الأطروحة الأمريكية عن صدام الحضارات أو بطلانها!


ذلك أنها دولة متعددة الأبعاد وذات خصوصية جيوسياسية وحضارية وتاريخية، تستطيع أن تستمر كدولة عالمية وحاضنة مثلى للتكامل الديني العلماني، كما للاندماج المتبادل، وتحديدًا في حال قررت أن تحفز ذاكرتها الدينية والعلمانية والعرقية المتفردة بحالة الخصب النوعي الملهم والمبدع، وذلك في إطار تموضعها الذي ستقرره جراء التحولات والمعادلات الدولية اوروبيًا أو شرق أوسطياً بالمحصلة.


أما إذا كانت ممسكةً فعلًا بقراراتها ورهانها ومصيرها وقادرة على تجفيف المخاطر الداخلية، فيمكنها أن تستأنف تفعيل الاتجاه في سكة تركية روسية وآسيوية وسطى وربما إيرانية كذلك؛ بحيث ستبلور سياساتها الخارجية حسب هذا الوضع الديناميكي المتخفف من عدة فواتير، ما سيؤسس لمعادلات جديدة في الشرق الأوسط وآسيا وأوروبا نفسها.


ولعل السؤال الذي يفرض نفسه الآن: هل ستقترب تركيا أكثر من الصين وإيران وروسيا عبر منظمة شنغهاي، وتبتعد عن الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة؟


إن مصلحة تركيا -وهي في هذا المنعطف الأكثر حرجاً- تكمن في عدم تفويت فرصة التكتل مع القوى الرئيسية في المجال الأوراسي عبر منظمة شنغهاي وإتمام إجراءات انضمامها الكامل لتكتل جغرافي واقتصادي وعسكري خطير -وبالذات- في وجه أوروبا والولايات المتحدة.


صحيح أن هذا الخيار سيجعل من العالمين الأوروبي والإسلامي بالذات يتعاملان مع تركيا بطريقة مختلفة، غير أنها ردة الفعل الوحيدة على عدم قبول العالم الأوروبي لإسلامويتها كما لمآخذ الإسلاميين المتطرفين على علمانيتها.


ومع بروز تحديات أمنية جديدة بسبب التنظيمات الإرهابية مثل داعش وتنظيم القاعدة، بات من حق تركيا أن تعيد حساباتها مع حلف الناتو الذي لم يؤازرها أمام روسيا والعودة بشكل أقوى إلى منظمة شنغهاي والانغماس في فضائها الآسيوي بدلًا من فضاء الشرق الأوسط التفكيكي الذي لن تنجو من آثاره!


وباختصار شديد: تبقى أمريكا وروسيا أكثر من تعرفان اليوم أهمية تركيا باعتبارها دولة مركزية ومغناطيسية استثنائية تقع في مركز الأحداث بالعالم، بينما على صناع السياسة التركية إدراك تبعات المناخ الجديد الذي يتشكل في المنطقة والعالم أيضاً.

الوسوم

التعليقات

تابعنا على   +