أشكال ألوان| ممارسة صحفية غير مشروعة

أشكال ألوان| ممارسة صحفية غير مشروعة

في السنوية الأولى لإطلاق ملحق أشكال ألوان الثقافي الأسبوعي، والذي اختار لنفسه شعار «أكتب.. وقوي صوتك»، يراسلني المحرر ليخبرني برغبة هيئة التحرير أن يكون عدد هذا الأسبوع عن الموقع، عن الكتابة فيه، نقدٌ بنّاء لعملي، أو لعمل الموقع! أتعلمُ يا سيدي المحرر ما الذي طلبته مني للتو؟


أنقدُ عملي؟ وهل اعتدنا كصحفيين عرب، وبالأخص سوريين، أن ننقدَ أعمالنا؟ إننا بالكاد نحتمل أن يوجه الآخرون نقدهم لنا، وغالباً ما نصاب بنوبة جنون متهمين إياهم بالغيرة والعبثية والغوغائية، ولكن قطعاً ليس بالنقد. هل رأيت يا سيدي المحرر صحفياً سورياً خلال ثورتنا السورية بسنواتها الست تعرض لنفسه بنقد؟ هذا لا يعني أننا لا نرتكب أخطاءً بالمطلق، بل إن إعلامنا الثوري يكاد يكون منبر الأخطاء مجتمعة، بما فيه من فرديةٍ وأجنداتٍ ونقص خبرة وتكرارٍ للأخطاء (لاحظ أنني أنقد الإعلام الثوري، لا ما أكتبه أنا بالطبع)، وبرغم تميز بعض الأقلام التي سيكون نكران ما قدمته إساءةً لا أنوي تقصُدَها، إلا أننا عادةً ما نرى هذه الأخطاء في الجميع، إلا في أنفسنا.


كي أكون منصفةً، النقدُ عادةً ما يتحول في صحافتنا العربية إلى تشفٍّ وحروبٍ شخصية، انطلاقاً من أن عملنا كصحفيين، وتميّزَ بعضنا بأسماء وكتابات، عائدٌ في الغالب إلى محسوبيات وغيتوات لا نستطيع رؤية أنفسنا خارج دفء جناحها. لذلك كان من أهم أسس الصحافة العربية اليوم، والذي لا يُدرس في المناهج وإنما نتعلمه بالخبرة، هو مفهوم إقصاء الأصوات الناقدة ومحاربتها، هذا لا يعني أننا لا نؤمن «كما نقول دائماً» بحرية الرأي.


وبالطبع، الحجة الجاهزة دائماً لنقد النقد أنه غير موضوعي، وأنه علمٌ لذوي الاختصاص لا يحق لأي أحد امتهانه بكل بساطة، خاصة وأن الناقد يجب أن يكون حيادياً فيما يتناوله، صادقاً، دقيقاً فيما ينشره من معلومات موثقة، وليس مجرد ساعٍ لإثارةٍ صحفيةٍ من نوع ما. عندما ندركُ سيدي المحرر أن هذه الصفات ذاتها، المطلوبة من الناقد، هي التي تفتقدها صحافتنا العربية هذه الأيام، والسورية بشكل خاص، ستعلم مدى صعوبة تنفيذ طلبك.


يرى الكاتب والناقد د. هاشم عبده هاشم أن هناك ثقافة مجتمع سائدة ترى أننا لا يجب أن نناقش بعضنا بعضاً بصوت عالٍ، ولا يجبُ أن نتحدث عن السلبيات علانية مهما كانت الأمور سيئة.


ألا تشعرُ معي أنه على حق؟ فنحن إن تحدثنا كصحفيين عن واقع الحال، وعن التجاوزات والانتهاكات، نتحول من أشخاص يسلطون الضوء على هموم مجتمعهم وأخطائه لتصحيحها، إلى أشخاصٍ يجب رجمهم على ما ارتكبوه من رذيلة الحق. وإن نحن صمتنا أصبحنا أشخاصاً غير معنيين بالواقع الحالي ولا يحق لنا الحديث. يجبُ أن يتواطأ العقل الجمعي على التستر، لا على إثارة الفضيحة بطبيعة الحال.


اعلم يا صديقي أن ناتجَ ما طالبتني به من نقدٍ للموقع ومحتواه، كان ارتباكاً بالغ الأثر على معالم وجهي وقلمي الافتراضي، حيث أنني بقيتُ ساعات أتأمل صفحة بيضاء فارغة أمامي، محاولةً أن أبدأ مقالي بالتملق والمديح «كما ينبغي». لا أنكرُ أن هناك نتائج تربية اجتماعية فرضت علينا واقع ثقافتها من مثل «إمشي الحيط الحيط وقل يا ربي الستر» و«اليد التي لن تستطيع عضها قبلها وأدعو عليها بالكسر»، وكما يقول العالم الإنثروبولوجي إدوارد هوك: «إن الثقافة قالبٌ وُضعنا فيه، فهي تسيطر على حياتنا اليومية بطرق عدة». ولكن وفي الوقت ذاته كانت فكرة «كما ينبغي» هي التي جعلتني أدركُ أيضاً أن نقد أي وسيلة إعلامية يتم عادة خارج صفحاتها لا داخلها، فلقمة العيش، إضافةً إلى مفهوم التربية الاجتماعية التي أشرتُ لها يجعل من الصعب علينا بداية تقبل فكرة أن تقوم بنقد مكان تعمل فيه علانية على صفحاته، مما يقودنا لفكرة أن النقد لم يُعامل مطلقاً على أنه بنّاءٌ وأداة تطوير، بقدر ما عومل على أنه هدّام وسببٌ مباشرٌ لخسارتك أي وظيفة تعمل فيها سواءً صحفية أو غيرها.


جملة المحاذير هذه ستجعل أي صحفي عربي يفكر ملياً قبل أن يتوجه بقلمه نحو وسيلته الصحفية معلناً خروجه عن المألوف، فكيف إن كانت وسيلته الصحفية ذاتها هي من طلبت منه ذلك!!


أستطيع الحديث عمّا أعانيه عند الكتابة في أي وسيلة إعلامية من انتقائية للمساحة والخبر، حين يكون الخبر معرضاً للذبول بعد ساعات من تناوله، ولكن تبقى مشكلة المساحة والوقت هي من أهم وأوسع المشاكل التي يتعرض لها الصحفي والوسيلة بآنٍ واحد. ما أريد قوله سيدي المحرر حقاً هو أننا لم ننضج بعد، وأن طلبك الغريب لا زال غريباً الآن في ضوء ما نعيشه يومياً من معاناة كصحفيين ووسائل إعلامية وجمهور، وأننا قمنا بثورتنا الإعلامية والسياسية والعسكرية على الاستبداد، ولكننا مارسنا الاستبداد بأنفسنا على أنفسنا لأن مفهوم حرية الرأي لازال غامضاً ومشتبهاً به، بل يكاد يكون المتهم الأول في كل ما وصلنا إليه.

الوسوم

التعليقات

تابعنا على   +