أشكال ألوان| لماذا نكتب؟

أشكال ألوان| لماذا نكتب؟

اليوم وقد حوصرت حلب، وتتراجعُ الثورة في كل مكان، تتراجعُ على صعيد الخطاب والسياسة والسلاح، تُرى لماذا نكتب؟


تتراجعُ الثورة السورية أمام النظام وحلفائه الروس والإيرانيين، وأمام تنظيم الدولة، وأمام قوات سوريا الديمقراطية. هذا عسكرياً، أما سياسياً فهي تتراجع إذ تبدو بلا حلفاء وبلا مشروع سياسي وبلا خطابٍ متسق. تتراجعُ قيمها وأحلامها أيضاً أمام تخلي العالم، وأمام اليأس والإحباط والفشل المتكرر، حتى ضاقت مساحتها ولم تعد تتسع لإدانة جرائم الذبح والاختطاف والتعذيب حتى الموت، وحتى أنها باتت بالكاد قادرةً على الدفاع عن حقها في رفع رايتها في مناطق يُقال إنها مناطق محررة.


ينتصرُ خطاب النظام السوري، ويبدو الثوار السوريون في عيون العالم مطابقين تقريباً لما قاله عنهم نظام الأسد في بداية الثورة، ويسير التاريخ باتجاه أن يكتبه المنتصرون كالعادة، إذ تبدو كتبه على وشك أن تُغلِقَ الملف وتحفظه على الرفوف تحت اسم: الحرب الأهلية السورية.


لماذا نكتب إذن؟ لماذا نكتب فيما يبدو أن كل ما كتبه السوريون حول نظام الأسد وثورتهم عليه قد ذهب أدراج الرياح، وقبله بلادٌ دُمِّرَت عبثاً، ودماءٌ أُريقت وعذاباتٌ قلَّ نظيرها في التواريخ المكتوبة للبشر. في سوريا مات عشرات آلاف البشر تعذيباً حتى الموت، وتم تشريد الملايين في أربع أصقاع الأرض، وها هو الفاعل يوشك أن ينجو بفعلته.


نجح السوريون المناهضون لنظام الأسد في تحطيمه، في تهشيم أذرعه العسكرية والأمنية، لكن الأخير استعان بمن لا قبلَ للسوريين بهزيمتهم. كان الثوار السوريون بحاجة إلى حلفاء حقيقيين كي يتمكنوا من الصمود عسكرياً، لكن هذا لم يحدث، لقد فشلت معارضتهم السياسية والعسكرية في بناء التحالفات. وكانوا بحاجة إلى الوحدة والتنظيم، لكنهم اقتتلوا فيما بينهم، وتنازعوا على السلطة والثروة.


تسيرُ ثورة السوريين نحو الفشل، هذه حقيقةٌ ينبغي الكفُّ عن الهروب من وجهها، فهم لم يتمكنوا من الدفاع عن قيمتها الأساسية، قيمة الحرية في مواجهة الطغيان، والقصةُ التي تنوي القوى الدولية كتابتها تتحدث عن حربٍ أهلية دموية ارتُكِبَت فيها كل أنواع الانتهاكات، وانتهت ببلادٍ ممزقة ومدمرة يعمل العالم على إعادة إعمارها بالتعاون مع حكومتها «الشرعية». يتم الاشتغال على أن تبدو القصة منطقية وحقيقية أكثر فأكثر، ويجهد كثيرٌ من السوريين أنفسهم على تأكيدها وإقناع العالم بها، وبعض هؤلاء مناهضٌ لنظام الأسد، لكنه يرى في الحرب السورية حرباً بين أشرار.


لكن للقصة روايةً أخرى، تتحدثُ عن سوريين خرجوا بالملايين الآلاف إلى الشوارع دفاعاً عن حريتهم وكرامتهم، وتم قتل وتعذيب عشرات الآلاف منهم بلا رحمة. تتحدثُ عن ثورة سلمية تحولت إلى ثورة مسلحة كادت أن تُسقِطَ نظاماً مدججاً بالسلاح، قبل أن يستخدمَ هذا النظام السلاح الكيميائي، ثم ينجو بفعلته بصفقة سمحت له بمواصلة استخدام جميع الأسلحة كيفما يشاء، عدا السلاح الكيماوي. عن ثورةٍ فشل قادتها ومثقفوها وكتابها في صياغة وبناء ما يلزمُ من خطاب ومشاريع وتحالفاتٍ تضمن نجاحها، وتركَ العالمُ حاضنتها الشعبية عرضةً لكل أنواع الحصار والتجويع والموت.


لماذا نكتبُ بعد كل هذا إذن؟ نكتبُ كي نحفظَ تفاصيل الحكاية، نكتبُ لأن الرواية الحقيقية يجب ألّا تُنسى، ولأن بقيةً من أملٍ ينبغي الدفاع عنها إذ ليس هناك نهايةٌ للتاريخ، ولأن نُبلَ وشجاعةَ مئات آلاف المتظاهرين والمقاتلين يجب ألّا تُرمى هناك على الرفوف كفصلٍ صغيرٍ من فصول حربٍ أهلية.


كتابةُ حكايات السوريين وتجاربهم، وروايةُ الوقائع كما حدثت، ليست ترفاً ثقافياً من أي نوع، بل هي وجهٌ من وجوه المعركة. تلك هي الكتابة الأكثر أهميةً ونبلاً الآن، لأنها تفتح باب الكتابة في السياسة والفكر بعيداً عن الشعارات الكبرى والنظريات الجيوسياسية التي لا تهتم بالبشر ومصائرهم، ولأنها قبل ذلك قد تمهد الطريق كي نكسب شيئاً في معركة كتابة التاريخ، تاريخ الثورة السورية، وتاريخ السوريين أنفسهم، الذين كانوا بلا تاريخ أو معالم طيلة عقودٍ من حكم نظام الأسد.

الوسوم

التعليقات

تابعنا على   +