ساهم الموقع الجغرافي لسوريا في التأسيس للشخصية السورية، وحفرت الظروف المناخية والبيئية عميقاً في سلوك العنصر البشري الذي يسكن هذه المنطقة. موقع سوريا المتوسط بين مراكز القوى المتصارعة جعلها معبراً للغزاة على الدوام، لم تكن هناك حدودٌ جغرافية كافية تحد من اعتداءات المعتدين، فكانت الحروب هي العنوان الأبرز في تفاصيل الحياة اليومية، شعوب كثيرة استسهلت الإقامة في هذه الجغرافية، ومجازر كثيرة عرفتها مدن وقرى هذه الأرض.
الكوارث الطبيعية ضاعفت من حجم الخسائر البشرية والحضارية، وكان الفقر والخراب السمة الأبرز لسكان هذه المعمورة، لم يكن أيٌ من الظروف المحيطة مناسباً لقيام مركزيةٍ سورية عبر التاريخ، كنا دوماً ملحقين بالأقوى، وبالقادة المنتصرين. وكانت فترات الاستقرار المحدودة لا تتيح للعنصر البشري فرصة كافية لبلورة تجربته الخاصة، وبناء ما يمكن أن يرثه الأبناء.
لم تتمكن هذه الأرض من إكمال دورتها الحضارية، فكانت الحرب قبراً لمدننا وحكايا أجدادنا. انقطع الحبل السري عن ذاكرتنا وماضينا، وتُهنا في أرضنا ونحن نخاطب أنفسنا بأسماء العابرين. لم يبن لنا أجدادنا وطناً، ويبدو أنهم لم يورثوا لنا سوى حروبهم وتركة الدم الثقيلة.
لا يمكن إجمال العوامل التي رسمت لنا ماضينا وحاضرنا ومستقبلنا، لكن الأكيد أن هذه العوامل وغيرها لم تنجب لنا سوى جنيناً مشوهاً نستطيع أن نسميه سوريا «المتطرفة». إن هذه «السوريا» فرضت كامل خياراتها على عنصرها البشري عبر التاريخ، ولم يكن من مفرٍ سوى الخضوع لما تمليه وصايا الجغرافية والبيئة والحرب، إننا نعيش ذلك يومياً في القرن الحادي والعشرين.
إن تتبع تناقضاتنا المتطرفة عبر التاريخ بلمحة سريعة ليس عسيراً، ويمكن العثور على تلك التناقضات ابتداء من التوراة والعهد القديم المليء بالدعوات «الإلهية» المفضوحة للقتل، مروراً بثقافة المسيح وإعطاء الخد الثاني لمن ضربنا على الخد الأول. ولأن التكرار في سوريا مكثفٌ للأحداث بصورة متطرفة، فقد خرج المتظاهرون في سوريا متطرفين للسلمية، عراة الصدور «مسيحاً» في مواجهة الدبابات وجماعات القتل التشبيحية التي كانت تهتف «الأسد أو نحرق البلد».
ولأن الخيارات المتطرفة تفرض نفسها دوماً تحول «السلميون» إلى السلاح، وما نتج عن ذلك لاحقاً من تغيرات في المشهد السوري مابين «إما أنا تكون شيعياً لعلي»، أو على النقيض من ذلك، في حالة تكثيف لمضمون «صفين» التي تفرض نفسها علينا بقوة حتى الآن. وصفين هذه ليست مقياساً للتطرف لأنها بين نقيضين فقط، بل لأنها النقيض في حد ذاته أيضاً، حيث يُقتل في هذه المعركة نحو سبعين ألفاً من الطرفين، ثم في نهاية المعركة يدعو كلٌ من قائدي الجيشين بعضهما تودداً للإمامة في صلاة الجنازة على من قتلوا في ذات الحرب، فنظل عالقين في أتون هذه الخيارات المتطرفة: إما أن تكون معي أو تُقتَل، إما الأسد أو نحرق البلد، إما تهتف باسمي أو عاقبتك الموت، إما تحبني أو تموت، عليك إما أن تكون قابيلاً أو هابيلاً، إما أن تضطر لتربية لحيتك إذا سيطرت جبهة النصرة أو داعش، أو تضطر لحلاقتها إذا ما سيطرت قوات الأسد أو قوات التحالف، إما نحن أو «الآخرون»، إلى الدرجة التي يختلط فيها «نحن» «بالآخرين» في هذه الأرض المتطرفة التي اسمها سوريا .. فهل نحن الآخرون!؟.