حين تغدو البيوت أطلالاً

حين تغدو البيوت أطلالاً

منذ ثلاث سنوات رحل صديقي تاركاً قلبه وخياله في حضن منزله، بعد أن أجبره كابوس البلاد على الفرار نحو حلمٍ جديد. لم يمنحه الوقت فرصةً ليودع المكان ويأخذ بعض الكتب والذكريات والأشياء التي يحب، كان الرحيل سريعاً ومؤلماً. عندما ذهبنا إلى منزله كي نرحّل ما فيه إلى منزلٍ آخر، كان المشهد تراجيدياً، والقطع لئيماً كأنه فيلمٌ توقف عن العرض فجأةً. قهوته على الطاولة مع أعقاب السجائر، ها هنا كتاب كان يُقرأ، على جهاز الكومبيوتر (المليء بالذكريات والصور) كان هنالك قصائد لم تكتمل بعد، صورٌ على الجدران، رائحته تحوم في المكان، كان تاريخٌ من الحب والتفاصيل والضحك والمواعيد يُجمع في كراتين سيأكلها غبار النسيان فيما بعد.


صديقٌ آخر رحل منذ شهر بعد أن أوصى بتوزيع محتويات منزله على الأصدقاء، الذين سيوزعونها فيما بعد على أصدقاء آخرين حين يرحلون، كان منزله محطةً أخيرة لمسافرين تركوا بيوتهم في انتظار مجهولٍ ما، ومستودعاً لأشياء أشخاصٍ قد رحلوا سابقاً، كان علينا أن ننقلها سريعاً إلى أماكن جديدة لتمحى ذاكرة منزلٍ آخر لطالما كان ملاذاً للحب ومسرحاً لحكايا الأصدقاء. رحل تاركاً ذكريات ومشاريع موزعة بين بيوت من ينتظرون أملاً ما.


بين صديق وآخر كانوا يرحلون متساقطين كأحلام مدنهم، وحيدين إلا من الحزن والنزيف، مودِّعين بيوتاً مليئة بالحب، دأبوا على زرع الحياة فيها وكانت جنتهم، هاربين من حربٍ عصفت بكل حكاياتهم، يتركون وصاياهم لنا ويرحلون. توزّع ثيابهم وأغراضهم وكتبهم، ويُجمع بعض حصاد حياتهم وذكرياتهم ومسودات أحلامهم في صناديق بانتظار أن يحدَّد مصيرها.


«لو استطيع أن أحمل بيتي في حقيبتي لكنت رحلت لأن منزلي هو وطني»، هكذا قال أحد الأصدقاء، لكنه رحل فيما بعد حاملاً حقيبة فارغة بعد أن تحول منزله لسجن انتظار وترقب.


صديقي الذي كرَّس حياته لجمع الكتب، وتحولت غرفته لمكتبة ينام بين رفوفها غارقاً في الكلمات، حين أُجبر على هجرها، لم يتسع حِملَه سوى لثلاثة كتب، رحل تاركاً حبيبته وحيدة للغبار وشباك العنكبوت.


حين زرت مرسم صديقي، كان ثمة لوحة مصلوبة لم تكتمل (ربما سيكملها في مكانٍ آخر)، في وحشة المكان كانت اللوحات مبعثرة في مشهد عبثي، يلفها الشحوب. قال باكياً قبل أن يغادر: «ليتني استطيع أن أخزّن لوحاتي في عيوني وقلبي، لأنني سأشعر باليتم بعيداً عنها»، لكنه رحل خالياً من أي لون. اللوحات اليتيمة التي كانت تلخص الحياة، باتت اليوم سجينة مستودعٍ تنتظر الموت، والمرسم تحول إلى مأوىً للنازحين الباحثين عن وطن.


حين تمشي الآن في الشوارع، يجرحك الفقد، ثمة حارات صار الخوف يمنعك من دخولها لأنها لازالت تعبق برائحة أناسها، بيوتٌ شطبت من فهرس المدينة وتوزعت محتوياتها على أخرى لازالت تدافع عن أمومة الأمكنة، وبيوت تنتظر أصحابها، يحرس ألفتها ودفئها من تبقى من الأصدقاء كي لا تجتاحها الوحشة. ثمة أماكن غدت كالقبور، وأماكن تحرس بعضاً من الحياة وتنتظر.


كنا نقول «في كل شبر من دمشق لنا بيوتٌ تحضننا»، أما الآن فحتى بيوتنا لم تعد تتسع لنا، منذ فرّ الوطن كلُّهُ إلى غير رجعة.

الوسوم

التعليقات

تابعنا على   +