بات مملاً جداً بالنسبة لي أن أبدأ أي مقالة تتعلق بالوضع السوري المزري بسرد تاريخي للسنوات الأربع الماضية، فلا أظن أنه يخفى على أي مهتم بهذا الشأن أن الثورة السورية انطلقت أسوة ببقية الثورات في بلدان الربيع العربي، كضرورة تاريخية محتومة، وأن تلك الكتابات التي خطَّها أطفال درعا ضد النظام السوري، لم تكن سوى الفتيل لإشعال الشارع السوري كما كان البوعزيزي فتيل ثورة تونس.
غير أن الحريق السوري كما يعرف الجميع أيضاً، اجتاح الأخضر واليابس على مدى أربع سنوات مرعبة، تبدل فيها ما تبدل من ظروف سياسية واجتماعية واقتصادية ولوجستية محلياً وإقليمياً ودولياً، وأمام كبيسة هذه السنوات الأربع بات مجدياً أن نتذكّر، وعلى وجهنا قناعا المسرح الباكي والضاحك، بعضَ الظواهر التي تفردت بها الساحة السورية بجدارة محتلةً المركز الأول في الترتيب. فقد انقرضت مثلاً تلك الظاهرة التي ألهبت حماستنا كلنا في بداية الثورة حين كان يخرج ضابط ما علينا، وفي يمينه هويته وبندقيته في شماله، ويزأر بثلاثة مبادئ «حرية وعدل ومساواة» ثم يرينا هويته مخترقاً عدسة الكاميرا كقبضة بروس لي التي لا تصدّ ولا تردّ، فنقفز من أسرّتنا ونعانق بعضنا ونضع الرهانات ونرمي التكهنات، ونتوقع سقوط النظام في رمضان المقبل أو عيد الأضحى التالي، ثم نواسي بعضنا حين نرى نفس الضابط إما جريحاً في بلد مجاور، أو لاجئاً في بلد كافر، أو عاصباً رأسه بقطعة قماش لا تمت للثورة بلون ولا علاقة.
وانقرضت كذلك ظاهرة الاختفاء المفاجئ لبعض الأشخاص من الشارع والبيت ومواقع التواصل الاجتماعي، وما يتلوها من انتشار سريع لصفحات المطالبة به حياً يرزق، مكرسة إياه كبطل ثائر تمّ زجّه في سجون القمع، ومطلقة نشرة تفصيلية عن ظروف نضاله الفيس بوكي والفيس بيتوتي، وقصة تضاهي قصص أغاثا كريتسي بوليسيةً وتشويقاً، تصف أهوال المطاردات التي تعرض لها في شوارع دمشق أو حلب أو حمص. ولا تنتهي تلك المعمعة إلا بظهور المنتظر بعد شهر أو ربما أقل، مطلقاً أول تصريحاته ومستقبلاً التهاني ومتقبلاً التاج الجديد الذي سيضعه على رأسه محبو البطولات والمطاردات الإلكترونية، ومن ثم يبدأ بعد ذلك مباشرة، ونتيجة حرصه على عدم إضاعة الوقت، بإسداء النصح لجماهير الثورة ثم إطلاق أحكام القيمة على كل من يتفوه برأي أو يتكلم بشأن عام.
كذلك انقرضت مؤخراً ظاهرة «أحبائي اقترحوا علي»، والتي كان يخرج علينا بها بعضٌ ممن يمتهنون التحدث أمام الشاشات، فيعلن عن استضافته في برنامج حواري ما، له علاقة بالاتجاهات أو العكوس أو الرأي والرأي الذي لا يقبل ذلك الرأي، ويتبرع بأن يصبح جسراً لنقل أفكار متتبعيه على الموقع الافتراضي الإلكتروني، مادّاً يده الفيس بوكية كما كان يفعل الشيوخ، كي يقبلها كل مؤمن بعظمة روحه وسعة فكره. ولا بأس أن نحتضن بعضنا حين نشاهده على التلفاز متعرقاً من شدة الشجار مع الخصم، رامياً بكل المبادئ في وجه خصمه (ووجهنا طبعاً) ومنتصراً لما تريده الأجندات المقترحة.
إذاً، لقد انقرضت كثيرٌ من الظواهر التكسّبية والاستعراضية، وربما نذكر كثيراً منها الآن، غير أننا سنتوقف عن ذلك لنذكركم بالسيدة «سالي ستانفورد». السيدة التي كانت من أشهر قوادات العالم، والتي امتلكت ماخوراً عظيماً في سان فرانسيسكو، فكان السياسيون والمشاهير يرتادونه، غير أن ما لا يعرفه كثيرون أن مفاوضات إنشاء الأمم المتحدة التي اجتمع لأجلها ممثلون عن خمسين أمة في العام 1945 قد جرى الكثير منها في ذلك الماخور تحديداً، حتى أنها كتبت في مذكراتها: أنها كانت تدَّعي الحصانة الدبلوماسية حين تتعرض لحملة على الماخور من قبل الشرطة، بل إنها كانت تلقي القبض على الرقيب «داير» كسجين حرب أو ما شابه لانتهاكه حرمة المكان. فقط نتذكر هذا حين يخطر في بالنا أن السنوات الأربع الماضية كانت قد احتضنت كثيراً من مؤتمرات التفاوض بما يخص الشأن السوري، ولم يتمخّض عنها أي نتيجة تذكر، عسى أن تكون هذه الظاهرة في طريقها للانقراض أيضاً وفقا لنظرية داروين في الانتقاء الطبيعي، مع تعاطفنا الشديد مع الرقيب «داير» الذي لم يسمع كما يبدو بالمثل الشعبي القائل: بعمرك لا تعلق مع عاهرة.