في ذلك الصيف الذي بيّض فيه وليد أبو السل وجهنا في دورة المتوسط عام ١٩٨٧، حدث أمام الجمعية الاستهلاكية ما يمكن فعلياً أن نسميه ملحمة بشرية، (وملحمة هنا اقتباس نصّي عن التحام الأعضاء البشرية ولا علاقة له بهوميروس، أو باللحمة الوطنية مثلاً، وتلازم المسارين) وجب التنويه.
فما حدث هو تلاحُم أكثر من مئتي رجل على كوّة الجمعية للحصول على علبتي حمراء قصيرة «من دون فلتر». ومن يعي فترة الثمانينات، يعلم جيداً ماذا تعني كلمة تلاحم، من أجل «باكيتين حمرا»، وما يعنيه تعبير «بلا فلتر»، في ذلك الوقت الذي كانت فيه المدينة الرياضية في اللاذقية، تتسبّب باختفاء جميع المواد الغذائية الأساسية من البلد، فضلاً عن الإسمنت والحديد والكهرباء، رسّامي الكاريكاتير «أو هكذا كنا نظن». ولم يكن ليعزّينا في ذلك الضنك، سوى هدف وليد أبو السلّ في مرمى فرنسا.
أما ما حدث أمام الجمعية الاستهلاكية تلك، فكان معركة حقيقية، ولكن بالأيادي البيضاء (كذلك بالقلوب البيضاء)، معركةٌ استُخدمت فيها كلُّ أنواع التدفيش والتطحيش والتلبيط وضرب الأكواع والأبواع، بغية الوصول إلى تلك الطاقة التي تخرج منها يد عجوز مرتجفة حاملةً علبتين من «التتن».
كنت أقف جانباً أراقب هذه (الملحمة) لرجال قريتي، الذين لا يقبل أحدهم أن يدخل باباً قبل أن يحلف على الآخرين أدباً أن يدخلوا قبله، ولا يشرب ولو كاد يموت عطشاً قبل أن يسأل الآخرين، ويرجوهم ليشربوا قبله.
أراقبهم وأتساءل إنْ كانوا هم أنفسهم حقاً؟
ثم فجأة يخرج رجلٌ أربعيني من قلب المعركة حاملاً هاتيك العلبتين: مزبداً مربداً يصرخ مستشيطاً، وقد انمزع من قميصه ثلاثة أزرار، أما عقاله والسُّلُك فكانا لا يزالان بين الأقدام المتزاحمة، إذ ما كان يجاهد من أجله في تلك اللحظة، ليس سوى القليل من الهواء فقط.
ولكن ما إن وصل خارج الملحمة وملأ رئتيه حتى صرخ كوحش جريح، وعيناه تقدح شرراً، وغضباً (كس إمممممممممممممممم...) وتوقف، وبلحظة واحدة تحوّل الهرج والمرج إلى سكون مطبق.
تشنّفت الآذان، والتوتِ الأعناقُ جميعها صوب الرجل الحانق، وانتظروا «وأنا معهم»: أمّ مَن يا ترى؟ هل سيفعلها؟ نحن في الثمانينات وحافظ الأسد ينام بين الرجل وزوجته، هل سيُفلِتها؟ هل سيقولها فعلاً؟
كنا جميعنا قد رأينا حافظ الأسد يتدلّى من بين شفتيه، ولم يبقَ بين الرجل و حتفه، سوى انفراج تلك الإطباقة .
مرّت لحظات من جليد، وشفاه الرجل ملتحمة عند حرف الميم، امتلأت الصدور بالهواء، وجحظت العيون، توقفت الطيور من فوقنا، وخيّم صمت رهيب، حتى لتكادُ ترمي عنصر الأمن فتسمع رنّته.
انتبه الرجل إلى هذا الصمت المدوّي وعلم بلحظة كشفٍ إلهيّة، أنه سيتحول إلى ترحُّم فيما لو....!
بقينا على ترقّبنا، وبقي على ميمه، حتى جاءه الإلهام فأردف زاعقاً: إمممممم وزير التربية!
لا تعرف كيف جلب وزير التربية في تلك اللحظة المصيرية من حياته؟ كيف حَضَرتْه تلك البداهة، وتلك الكوميديا السوداء في ذلك المساء من ثمانينيات الأسد الماضي، أيام كانت أقلام الريم وكبريت الفرس واحدة من منجزات الحركة التصحيحية، إلى جانب أهداف وليد أبو السل!
لا تعرف كيف أنقذ الرجل ما تبقى من كبرته، وكيف ترك أغراض رأسه بين الأقدام ومضى في سبيله مكتفياً بابتسامة شامتة،