الخزي

الخزي

يحدث أن تقابلك وأنت تتصفّح أحد المواقع الاجتماعية أو الصحف العالمية، صورٌ لما يحدث كلّ يوم في سوريا من فظائع وجرائم وإبادة حقيقية، أعترف أنّني أهرب من هذه النوعية من الصور، أقرّ أنا الموقع أدناه أنني أفعل، أهرب من رؤيتها عامداً، أعرف جيداً أنّني إن رأيتها لن أكون أنا بعدها، الصور الصامتة التي تمرّ علينا هكذا من حينٍ إلى آخر، تعبرنا بصمتها الجلل، لنهرب بأعيننا منها كيتامى أدركوا - للمرّة الأولى - أنّهم يتامى.


نعرف جيداً هذا الأثر الموجع من الألم المصفّى الذي يبقى في داخلنا بعدها، ربما هو الشعور بالخزي، نعم.. الخزي يا صديقي، هذه الكلمة التي يجب علينا من الآن أن نكثر من استخدامها، وانظر أمامك لترى، انظر خلفك لترى، عن يمينك لن يختلف كثيراً عن يسارك، الخراب هو السائد أمام عينيك، وحين يسود الخراب .. فلا بد من الشعور بالخزي!


كرهت الجغرافيا منذ الصغر، لم أفهم أبداً سبب كلّ هذه التعرّجات في حدود البلدان، لماذا يجب أن تكون هناك حدودٌ أصلاً؟! كان عليّ أن أنتظر قليلاً لأكبر، وحين كبرت عرفت أن عليَّ أن أكره الجغرافيا أكثر من ذي قبل. كرهت التاريخ كذلك، إلا أنَّني احترمت كذبه، ودائماً ما تصوَّرت الجغرافيا في صورة امرأة لعوب، كلّ يوم في حال من أثر الطبيعة والأمزجة البشرية و.. ما خفي كان أعظم، فتغيِّر من نفسها بنفسها، أو تترك نفسها لمن يستطيع أن يغيِّرها، فيما رأيت التاريخ طالب علم مجتهد، يدوِّن ما يلقى على مسامعه من المنتصرين فقط، بإخلاصٍ مثيرٍ للشفقة، ولم يكن العدل أساس الملك، ومالك الحزين شاهدٌ على ذلك.


صار الملك مشاعاً، تتناهبه الغرائز والسّموم ودمامل البشرية، صرنا أحطّ من الحيوانات يا صديقي، وتستغرب عليّ أن أقول كلمة «الخزي»؟ أرني هامة تعلو اليوم أعلى من هامة «الخزي»، من هامة الخجل والمذلّة والخسران، كلّنا مكلّلون بتاج الشّوك ذاته، لكن منَّا المسيح ومنَّا يوحنّا المعمدان ومنّا المجدلية، الدّم واحد تتشرّبه الأرض نفسها، فتطرح قمحاً وشوفاناً ونجيلاً وفطراً مسموماً، لونه أحمر كلّه، هل الطعم واحد أيضاً يا ذوّاقة الدّم؟!


تبقى الصور معلّقة كمصابيح تتدلّى في رؤوسنا حتى حين نهرب منها، تتبعنا في نومنا وصحونا، أستعيدها حين أسمع اسم سوريا يتردّد في نشرات الأخبار على استحياء، صار الأمر لا يستدعي اهتمام أحد للأسف، صار الأمر طبيعياً، واحتلّت أخبار أخرى صدارة المشهد. اقتنع المتلقي الغربي الآن - كما أراد له سياسيوه أن يقتنع  -أنّ الصراع في سوريا صار «حرباً أهلية»، لكنه يتابع تطوّر وتضخم دولة داعش بحذر الفريسة، صار الأمر في سوريا بالنسبة للكثيرين «معقداً»، إلا أهلها، هؤلاء الذين يعرفون أنهم ما خرجوا منها إلا مجبرين.


الملك صار مشاعاً، ومَلِكٌ يتربّع على عرشٍ من خراب، لا حدود ولا جغرافيا، لم يستطع التاريخ أن ينقذ حلب،  أن يشدّ من أزر الرّقة، أو حتى مواساة حمص، واختبأت الجغرافيا عارية خلف أوّل ستارة تهتز أمام نافذة، رفعت الصحف وجفت الأقلام، لا.. رفعت الأعلام السود ولم تجف الأقلام، رفعت الرايات السود.. وبيعت السبايا في سوق النخاسين، تزوجت القاصرات وأصبحن أمهات.. وقتلت المتبرجات وكاشفات الشعر، وقالوا: شرع الله، فتذكرت أنني لم أتحدث بعد عن كراهيتي لثالث اثنين: التاريخ والجغرافيا..



«الخزي» يا صديقي..


أوصيك بـ«الخزي»!

الوسوم

التعليقات

تابعنا على   +