سنيّة صالح ... التحفةُ التي لم تجد متحفاً.

سنيّة صالح ... التحفةُ التي لم تجد متحفاً.

«أيها الوطنُ الصّدئ، أنا قمرُك الهشّ


فاهرب كالورق الميّت


أيها الوطنُ المتآكلُ


أنا الجسورُ التي بُنِيتْ من عظامِ أطفالك»



أن تكونَ مبدعاً في سوريا منذُ خمسينَ عاماً، قد لا يعني بالضرورة أنّكَ ستضطّرُّ لتقديمِ تنازلاتٍ فنيةٍ أو أخلاقيةٍ لتصلَ إلى المقام الذي تصبو إليه وتستحقّه، إذ ثمّة مبدعون حافظوا على إنسانيتهم وصنعتهم الفنيّة في آن، لكنّكَ من المؤكّدِ ستخوضُ حروباً كثيرةً وضارية لتحافظَ على هذه السمات. وأن تكوني مبدعةً فالحروبُ مضاعفة، أمّا إذا كنتِ مبدعةً وزوجةَ مبدعٍ، فالحياةُ برمّتها ستأخذُ شكلَ المعركة.


وسنيّة صالح (1935 – 1985) كانت واحدةً من اللواتي عشن حياتهنّ بكلّيتها وسطَ معاركَ لا تنتهي.


حظيتْ سنيّة، البنتُ المصيافيةِ في ريف حماه، بعائلةٍ تهتمُّ بالثقافةِ والأدب، شقيقة لفتاتين اتّخذتا من الإبداعِ طريقاً أيضاً، الناقدة المعروفة خالدة سعيد، والفنانة الراحلة مها الصالح. وربما من سوء حظها، أن لا أحد يعلمُ بالطبع متى بدأت سنيّة بالضبط كتابة الشعر، ذلكَ أنّ اسمها حتى شعرياً، اقترنَ باسمِ زوجها، الشاعر الراحل محمد الماغوط، الذي التقتهُ للمرةِ الأولى في بيت الشاعر أدونيس (زوجُ اختِها خالدة) في بيروت، وكانت بعدُ طالبةً في كليّة الآداب في جامعة دمشق.


حوصرتْ سنيّة مثلُ كلّ امرأةٍ وكلّ مبدعةٍ في بلادها، ثمّ حوصرت باسمِ أختها خالدة، الناقدة التي كانت تتماهى مع طروحاتِ زوجها ذي الاسمِ المرموق شعرياً وفكرياً، ثمّ باسمِ زوجِها الشاعر الذي كان آنذاكَ يعتبرُ من أبرزِ الأسماء التي تكتبُ قصيدةً مختلفةً عن السائد.


فُرضت الظلالُ على سنيّة صالح، لكنّها استثمرتها بأن كتبت من خلالها قصائدَ خافتة حادّة، استطاعت من خلالها، ومن خلالها فقط، أن تفرضَ اسمها بقوّة على الساحة الثقافية والشعرية تحديداً في سوريا ولبنان، وحصلت في العام 1961 على جائزة جريدة النهار لأفضل قصيدة نثر عن قصيدتها «جسد السماء»، منحتها لجنةُ تحكيمٍ كُوّنت من: شوقي أبي شقرا، صلاح ستيتية، فؤاد رفقة، أدونيس، وأنسي الحاج الذي كان يُشرفُ على القسمِ الأدبيّ في الجريدة آنذاك.


ثمّ، وفي العام 1964 صدرَ لسنيّة صالح ديوانها الأول عن المكتبة العصرية في لبنان، معنوناً بـ «الزمان الضيّق»، وفازت في العامِ نفسهِ بجائزة مجلّة حوّاء للقصة القصيرة، ثمّ جائزة مجلّة الحسناء للشعر عام 1967.


تتالت أعمالُ الشاعرة الراحلة بعد ذلك، فصدر لها في الشعر «حبر الإعدام» 1970 عن دار أجيال – بيروت. و«قصائد» عن دار العودة – بيروت 1980، ومجموعة قصصية بعنوان «الغبار» عن مؤسسة فكر للأبحاث والنشر – بيروت 1982.


ولم يكن مستغرباً وفقَ سياقِ حياةِ سنيّة أن تخوضَ معركةً أخرى مع المرض عام 1985، لكنّ السرطان هذه المرّة لم يُطل حربهُ معها، فخطفها بعد عشرة أشهرٍ في أحد المستشفيات في العاصمة الفرنسية باريس. ليصدرَ بعد وفاتِها كتابٌ لسنيّة صالح عن دار رياض الريّس عام 1988 عُنوِنَ بـ «ذكر الورد»، حملَ نصوصاً كتبتها على فراش الموت.


لم تكن معاناةُ سنيّة صالح، فقراً أو جوعاً أو تشرّداً كمعاناةِ أكثرية السوريين، لكنّ المعاناة الداخلية والصراعات التي عاشتها كامرأةٍ وكمبدعة، لا تقلّ ضراوةً عن معاناة الحفاظِ على الحياة، إذ ما قيمةُ الحياةِ إن كان الوجودُ بذاتِهِ هو هدفها؟!


ولعلّ محمّد الماغوط، زوجُ سنيّة صالح الراحل، لخّص على أفضلِ وجهٍ ما يُمكنُ أن يقال في سنيّة صالح: «لقد آذاها إسمي .. كانت شاعرةً كبيرةً في وطنٍ صغير».


منذُ ذلكَ الوقت، وسوريا لا تتّسعُ لأبنائها...

الوسوم

التعليقات

تابعنا على   +