كان من أفضال الفيسبوك - في عصر الانفجار الشعبي - على هذا الشعب الجميل أنّه كسّر كلّ الحواجز، حواجز الخوف - كما يقال - وحواجز الخوض في السياسة – تقريباً - وحواجز الدين والجنس - ليس صحيحاً - والذكوريّة، واحتكار المعرفة في نخبةٍ معيّنة. إلّا أنّه مع كلّ هذا التكسير لكلّ هذه الحواجز، كسّر بالجملة حاجز الاحترام والأخلاق والحياء، فصارَ من حقّ أيّ شخصٍ مهما كان مستواه المعرفي متدنيّاً، أن يشتمَ أي شخصٍ مهما كان مستواه الثقافي والمعرفي عالياً، ويتحدّث عن أيّ شيء من منظورٍ مختلفٍ عن الأوّل! وللأسف أدّى هذا بدوره إلى ظهور حواجز جديدة لدى المثقّف تندرج ضمن حاجز الخوف من مريديه وجمهوره والمصفّقين له والمسبّحين بحمده طالما أنّه يتوافق مع ما يعتقدون أنّها أفكارهم، وهي بالتأكيد ليست كذلك، بل هي حصيلة تجميع لأفكار الآخرين، خاصّةً تلك التي تأتي على شكل منشورٍ فيسبوكي يحصد 1500 لايك!
يعزّ عليّ أن أرى أحدًا بقامة المفكّر د.محمد شحرور، أو المفكّر د.برهان غليون، على سبيل المثال لا التخصيص، يتعرّض للشتم من مراهقٍ لا يملك في حياته من المعرفة سوى ما قرأه في كتبه المدرسيّة، ليس لأنّ شحرور أو غليون منزّهون عن الخطأ، بل لأنّ الآخر لم يعد يقرأ الفكرة المطروحة، بل يقرأ ما يناسب مبرّرات الشتيمة لا أكثر. هذه المغالاة في قلّة الأخلاق موجودة مسبقاً بالتأكيد، لكنّها ظهرت بشكلٍ مبالغٍ فيه على مواقع التواصل لعدم وجود أي رادعٍ اجتماعيٍ أو قانوني، بل تجد كثيرًا من التصفيق والتهليل وكأنه انتصارٌ عظيمٌ على هذا (المثقّف)، حتّى أصبحت كلمة المثقّف شتيمةً بحدّ ذاتها.
الأسماءُ الوهمية ساعدت بشكلٍ كبيرٍ على تسهيل الاعتداء على الآخر، كما ساهمت في منح صاحبها حريّة أكبر تخوّله ليتحدّث عن شقيقة أو أمّ أحدهم لأنّه مختلف معه. الأشباحُ المتنقّلة بيننا، والتي كانت تسكن في (قطرميز) متعفّنٍ منذ عقودٍ، فُتحتْ لها طاقة العمر لتخرج مع كلّ عفنها ناشرةً كلّ أمراضها وجهلها الذي اقتضاه غطاءُ (القطرميز)، والذي منعها من معرفة ما يدور حولها وظنّت أنّها تعيش وحدها في هذا العالم، ووحدها تملك الحقيقة والصواب، رغم أنّها لم تبحث عن أي حقيقةٍ سوى كيف تعتدي على الآخر من جهة، وكيف تكسب لقمتها من جهة. هُم ضحايا بكل تأكيد، وعلينا استيعابهم، لكن هذا لا يعني أبداً القبول بكل هذا العفن والقبح المنتشر، الشعبويّة لا تنتج معرفةً ولا قيمة، تنتج قطعاناً بالضرورة.
كنتُ أتمنّى لو أن هؤلاء الملثّمين بأسماء وهمية قد ناقشوا فكرةً ما، أو نظريّةً ما، وحلّلوها وفكّكوها ودرسوها في سياقها وسقفها المعرفي وقدّموا رؤيتهم المخالفة، إلّا أنّهم لا يعرفون، لم يتعلّموا غير الشتم، فالكتب المدرسيّة التي قرؤوها كانت كفيلةً بجعلهم يملكون الحقيقة المطلقة. أحدهم لم يقرأ في حياته كلّها عشرة كتب، وإن قرأ ستكون عن قصص الحبّ أو الجريمة أو فتاوى العادة السريّة، ويجهل من كلّ شيءٍ أكثر ممّا يعرف، يخرج على صفحته ليجعل أحداً ما فريسةً أمام تصفيق قطيعه، وينهش لحمه، بل ويزيد في تحويل المثقّف/القيمة إلى المثقّف/الشتيمة، فيتحوّل الشبح إلى بطلٍ يحاضر في بطولاته التي تصبّ كلّها في خانة شكل الشخص واسمه ودينه وثيابه، فإذا خاطبه بمفردة «عزيزي» محاولًا إضفاءَ رسميّةٍ على الحوار متوقّع النتائج، سيغدو متعالياً ومدّعياً، وإن لم يردّ كان الأمر كذلك أيضاً، وإذا ردّ بما يخالف توقّعات الشبح كأن يقول مثلاً «أنا بصحّةٍ جيدة» عوضاً عن «الحمد لله»، فيا غيرة الدين من هذا المتثاقف المتألحد المتفهمن، ويا حظّ الأمّة بأشباحها الأبطال!