أذني تسمعُ من دوما

أذني تسمعُ من دوما

في جمعةٍ مُباركة من عام 2011، وبينما كنتُ مُشاركاً في إحدى المظاهرات التي اعتادَت أن تَجتاح «دوما» بصورة يوميّة، توقّفنا على مُفترَق طُرُقٍ في شارع القوتلي، حيثُ تفصلُنا عن قوات الأمن أمتارٌ قليلة، وكثيرٌ من الكرامة والرِفعة. لقّمَ الجنود أسلحتهم، ثم صاحوا بنا: «عودوا إلى مَنازلكم في غضون دقيقتين، أو لن تعودوا أبداً!». أنظرُ في وجوه الناس من حولي، صار واضحاً للغاية أن «العودة إلى المنازل» لم تُكن ضمنَ الأولويات المطروحة حالياً في تفكير أيٍّ منهم.


استمرّت الحناجر تصرخُ بأسمى ما في الإنسانية من مثاليات، تلك التي لا يُصدّقها إلا البُسطاء أمثالنا. في البداية، أطلقَ الجنودُ رصاصاً في الهواء على حمائم السماء. أقولُ الآن جازماً بأنّ ذلك التصرُّف لم يكُن حرصاً على حياتنا بكلّ تأكيد، وإنّما يَندرجُ في خانة المَثل الشعبي القائل: «الحكي إلك يا جارة...». ففي حينها، كان الشعب السوري ما يزال، على ذمّة «الهَتيّف» طبعاً، شعباً واحداً. وكنّا نحنُ إخوة الحَماة، وإخوة الحمام، على حدٍّ سواء. لم نَفزع، شعرنا، بفضلِ جرعات الأدرينالين المجانية، أنّ السماء ستمطرُ غيماً وريشاً. يا لبياضِنا!


بعدَ قليل، توقّفَ الجنود الذين كان آخرُ ما يريدونَهُ هو أن يُضيفوا إلى المُظاهرة نَفحةً من الرومانسية الثوريّة، فقرّروا أن يُفتّتوا كُرة الثلج قبل أن تكبُر أكثر. في تلك الأيام، أيام الزمن الجميل، لم تكُن القنابلُ الصوتية قد انقرَضَت بعدُ (رحِم الله أشلاءَ عُبواتها). أطلقَ الجنود عَدداً من القنابل الصوتية صَوبنا، فانفجرَت إحداها قريباً مني. ومنذُ ذلك الوقت، خَسرتُ القدرة على السّمع في أُذُني اليسرى، بيد أنّي لم أنظُر يَوماً إلى الأمر بسلبيةٍ وسوداوية، لدرجة أني لم أُعالِجها حتى الآن، بل اعتَدتُ أن أقولَ مُفاخراً: «لديّ أذُنٌ في دوما، وأيُّ أُذُن؟ اليُسرى، مُفضّلَتي أنا العسراوي».


كم كان مُذهلاً أن أستمِعَ، من بَيتي الكئيب في دمشق، إلى صَوتِ دوما تنبضُ حُريّةً وتمرُّداً؛ وكم كنتُ أضحكُ شامتًاً على ما اعتادَ أن يَفعلهُ «الشباب» ليلاً بما تبقّى في المدينة من حَواجز للنظام، فأكادُ أسمعُ خوف الجنود الحَمقى من كلاب الشوارع التي تَجرُّ في أذيالُها حِبالاً من عُلَب التنك الفارغة. ويا لبساطة رحلتي في الزمن إلى دوما، إذ لم يَكُن عليَّ سوى أن أستلقيَ على جانبي الأيمن، بحيث أمنع أُذُني اليُمنى من استقبال الأصوات الأخرى.


لكن، للمجازر وقْعها المُختلف في الأذن؛ انفجارٌ فصَمت، فصُراخٌ وعَويل، ثم صَمتٌ طويل. ولا أدري،عند كلّ مَجزرة، هل حَدثَ هذا الصمت الطويل حقاً؟ أم أن أحدهُم قد حَملَ أذني المُدماة كي يُسعِفها بعيداً، ريثما تُرفَع الدماء والأشلاء من شارعِنا؟ مع ذلك، أعلمُ مُطمئناً أن أذني لن تموتَ الآن، ليس بفضل اتصالنا البيولوجي، بل لأن في المدينة «نَفسَ الله» الذي يتجّلى دَرويشاً يرقصُ في كُلّ زاوية من زوايا أعيُنِ أبنائها الغارقة دَمعاً؛ يتنفّسُ تحتَ الدمعِ ولا يَغرَق؛ يرسمُ ببياضِ ثوبهِ سماءً لغَدٍ جَديد، ويَحفرُ بسوادِهِ قبراً بلا شاهدةٍ للقَتَلة؛ ثم يرفع قُلنسوتهُ تحيّةً لأصحاب تلك العيون.



لو أرادَ التاريخ يَوماً أن يُنصِفَ هذه المدينة، فأقلّ ما يَفعلهُ أن يَعتمِدَ عِنبَها بديلاً عن الأرزّ في استقبالِ الأبطال والفاتحين.

الوسوم

التعليقات

تابعنا على   +