أرفعُ جسدَكِ رايةَ رعبٍ وخذلان!

أرفعُ جسدَكِ رايةَ رعبٍ وخذلان!

الجرحُ أكبر، اليدُ الممتدّةُ من كتفٍ إلى كتفٍ مصابةٌ بفقدانِ ظلّها، العينانِ لا تجرؤان على الإبصارْ، الحزنُ يصرّ على تكرارِ المؤثراتِ المرافقةِ للمجزرة، ولم يَعدْ بيننا سوى الدم، جسدٌ بلا روح، روحٌ بلا أجنحة، أبناءٌ بلا والدِين، أمّهاتٌ بلا أرحام، وذاكرةٌ لا تستطيع احتمال ما يخالف الوجع. السماءُ لم تتوقّف عن تأديةِ دورِ القاتل، الأرضُ عَشِقَتْ المظلوميّة، النهرُ اعترافٌ مسبقٌ بقدرةِ الماءِ على الحركة، الجدرانُ أحجارٌ انتصبتْ وثمّة من يريدُ كسرَ إرادتها، الزجاجُ محاولةُ الجدارِ لإفشاءِ السرّ، والدمُ حين ينطقُ، يخرسُ كلّ شيء. لم يعد بيننا سوى الدم، دمُكِ اختفى من وجهِكِ فلم أعرفْك حينَ وقفتِ أمامي، اختفى من يديكِ فلم أرَ تلويحهما ولم تمتدّا لتصافحا خوفي، اختفى من قلبِك فلم يقفز إلى دهشة لحيتي التي طالت كثيراً، اختفى دمُك، وسالَ بيننا، لذلك، لم تسمعي صراخي وعويلي!


ربّما لم تشعري كيف حملتُك من جديدٍ بعد انقطاع، وكيف تحدَّث دمُك، وكيف غرقتُ في مائكِ كما كنت في الماضي، ولو تغيّر لونه، أعرفُ هذا الوجهَ، أقولُ، ثم أُنكِرُ، أعوي ككلبٍ قطعوا لهُ أذنه وأجبروه على أكلها، ثم ّأخرسُ فأصبحُ قاتلًا. أعرفُ رائحتَكِ، ثمّ أتنكّر لها وأهربُ، أعودُ، أضمّكِ، أناديكِ، أبكي، أُجَنُّ، أراكِ تطيرينَ بلاداً مهزومةً، أحملُ نزقَ رصاصةٍ وأمسكُ نذالةَ قنبلة، وأخرجُ بعُريِ خوذةٍ مسروقةٍ، لأملأ السماءَ طلقاتٍ تالفةً زوّدونا بها تسهيلاً للانتحار، وأرفعُ جسدَكِ رايةَ رعبٍ وخذلان، وأقولُ وأنا أسقطُ: ما زالت تُمطر دماً!


قومي، واهربي من كلّ أسئلتي، أو أجيبي، صمتُكِ يعني انتصاري، أنا السوادُ الذي لم ترَيْ إلّاه، هل أعجبكِ بياضُ الكفنِ الآن؟ لا تقفي أمامَ أسئلتي كخرابة، قومي، واهجريني ثانيةً، وارحلي، خذي ما شئتِ واخرجي من جلدكِ الدامي، أيتها الخيمةُ/البلادُ الخائنةُ عودي للّاجئ. قسيمةُ شراءِ الأغذيةِ لا تُغني عن الأرض، الوِحدةُ مرضٌ أتغنّى به، البردُ أوحَش، الحنينُ أثقلُ، وأنا أحضنُ جثّةً/جثّتي، وأحسِنُ البوحَ والتلويحَ للذكرى وأرقصُ مَمْسوساً، أطيلُ التحديقَ، أنتظرُ إيماءةً، إشارةً، معجزةً.. وابتسامة!


جسدانِ مختلفانِ، جسدٌ لجسدٍ لا يجتمعانِ إلّا رحيلاً، ولا أرى في الزحمةِ سوى وجهٍ قديم، وخاصرةٍ أعرفُ تفاصيلها، ويدٍ تلوّح بِسُكون، هذه الملامحُ قد تكون لأحدٍ أعرفهُ، هل يفعل البحرُ كل هذا؟ أم الحرب؟ الحروف ذاتها والشكل مختلف! من سمّاهما!؟ ومن لوّنني بالسواد؟ من أطالَ لحيتي؟ من أخبرَ الغُرَبَاء عن عورتي؟ من سرقَ بياضي وأخفاهُ عنها ثمّ قدَّمه لها على هيئة كفن؟


أصرخُ، فتخرجُ أحشائي، نولم للموتِ لحمَنا، ونسقي دماً واحداً للإسفلت، قد لا يدرك قيمته لكنّني أدرك، وقد لا تدرك قيمتهُ لكنّني أدرك، وقد لا أدركُ فأصبح عتماً طويلاً لا ظلّ لي كَيدٍ ممتدّةٍ من كتفها إلى كتفي، هنا، في هذه اللحظةِ العتيقةِ المكرّرةِ التي يسمّونها «مجزرة» سأفرحُ لكلِّ ضحكةٍ لم يوقفها خبري.

الوسوم

التعليقات

تابعنا على   +