أنا أقلِّلُ من الإنجاز إذن أنا إخوان، أنا أبالغُ حد الهَوَس إذن أنا مصري، تلك هي القاعدة التي نقلناها عن ديكارت بتصرف، كان يَشُكُّ ليصل إلى الحقيقة، أما أن يصل الشكُّ حدَّ الهَوَس، فتلك خصلةٌ مصريةٌ خالصة.
بعد وقتٍ قصيرٍ تظهر الحقيقة، والحقيقة لا تكفي وحدها لإسكات المعارضين، بل يَضَعُ عليها الموالون للنظام بهاراتٍ ومحسناتِ طَعم، تَفسدُ الطبخة، أو تصيرُ شيئاً أخرَ يدفعُ للضحك، أو إلى القيء!
لعلَّ ما جرى قبل وبعد افتتاح مشروع قناة السويس الجديدة كان دليلاً على ذلك، ويكفينا هنا أن نرصدَ ثلاثة مشاهد حولت المشروع القومي إلى فولكلورٍ شعبي، أو إن شئت الدقة، إلى حجةٍ جديدة لمكايدة «النسوان» بين السلطة العسكرية الحاكمة وإعلامها ورجالها، وبين التيارات الدينية، من هَرَبَ منها ومن بقي.
المشهد الأول: هل هي حقاً قناة؟
يقولُ الإخوان إنها مجرد «ترعة» لا يتجاوز عمقها قنوات الريّ الصغيرة في القرى، قيلَت بعد عامٍ كاملٍ من التشكيك في حقيقة المشروع نفسه، حتى صارت القناة واقعاً، ودَعَت الدولة الملوك والرؤساء لافتتاحها، فانتقل الشكُّ من مرحلةٍ إلى أخرى.
يظهر داعيةٌ إسلاميٌ متطرفٌ على إحدى القنوات التابعة لهم، يقول إن «طشت أمِّه» أعمقُ من القناة، و«الطشت» في الثقافة المصرية، وفي ثقافاتٍ عربيّة أخرى، هو إناء الاستحمام الذي كانت تستخدمه النساء قديماً في تحميمِ الصغار.
إعلام الدولة يلَّقِبُها بالقناة الجديدة، وهو المصطلح الذي اتُفِقَ عليه، إذا لم يكن لدى قائله نوايا أخرى. في حين يحاول شبابُ الثورة السير على حبل المنتصف بين طرفين متصارعين، فيلَّقِبُونها بالتفريعة الجديدة.
يوم الافتتاح، يحتفل المواطنون بالقناة في التحرير، يتظاهرون بـ «طشتٍ» صغيرٍ يضعون فيه صورة الداعية الإسلامي، يُغرِقونه كيداً. تَنقل الفضائيات احتفالاتهم كمادةٍ للضحك والمكايدة في آن واحد، ويظهر مقدم برامجٍ شهيرٍ بـ «الطشت» في برنامجه، وخلفه شعارات القناة!
وفي اليوم نفسه أيضاً يقف صديقي الطبيب الشاب في طريقه إلى بيته، يسأل سائق تاكسي:
- من فضلك ... شارع الترعة الجديدة.
- ترعة يا إخواني يا ابن الكلب؟!
أما سامي عبد العزيز عميدُ كلية الإعلام السابق في جامعة القاهرة، وأحد رجالات نظام مبارك المعروفين، يطلق تصريحاً بجديةٍ شديدة: «من يشكِّكُ في عمق القناة، سوف نغرقه فيها».
المشهد الثاني: طبق «قناة السويس الجديدة».
أذهبُ مع صديقتي لتناول الغداء، كأي يومٍ عادي في محل أسماكٍ شهير، تُفاجِئُنا لافتةُ المطعم «عرض خاص.. طاجن قناة السويس». نسألُ النادلَ عن العرض، فيقول إن صاحب المحل قرَّرَ تغيير اسم طبق المأكولات البحرية المتنوعة ليأخذ اسم القناة الجديدة فخراً واحتفالاً.
نَخرجُ من المحل ونعبر الرصيف، نصطدم باللافتة، خصوماتٌ وتخفيضاتٌ هائلة على كافة أنواع السيراميك بمناسبة افتتاح القناة، لا تدع الفرصة تفوتك! يتكرر الأمر في محلات الملابس، ثم تتحول حمىً تجتاح كل السلع.
الطامحون في الانتخابات البرلمانية المقبلة أيضاً، علَّقوا صوَرَهم ممهورةً بشعار القناة الأزرق، والتهاني الكثيرة للرئيس والشعب الذي حقق عبوره الثاني بعد عبور خط بارليف في حرب أكتوبر 1973.
المشهد الثالث: الأزهر والكنيسة نحو قناةٍ واحدة.
المؤسساتُ الدينيةُ لا بد أن تُطلِقَ الرصاص حباً وتهنئةً في العرس، يقرِّرُ الأنبا «أرميا» أحد كبار رجال الكنيسة الأرثوذكسية المصرية، أن يؤلف كتاباً عن قناة السويس الجديدة، التي زارها مرةً واحدةً فقط في وفدٍ كنسيٍّ خلف «البابا تواضروس» بابا الإسكندرية، وبدون أن تربطه أي علاقةٍ علمية بالهندسة أو علوم الملاحة البحرية. فيما كلَّفَت وزارةُ الأوقاف خطباءَ المساجدِ بتوحيد خطبة الجمعة، لتصبح قناة السويس الجديدة والعمل والإرادة موضوعاً لها.
ولم تُقصِّر الدولة في المبالغة بالاحتفال، فَمَنحت موظفي القطاع العام إجازةً رسميةً مدفوعةَ الأجر، بينما رَفَضَت الاستجابة لتحذيرات الأرصاد الجوية في أيامٍ لاحقة، وصرَّحت وزيرة القوى العاملة: «القانون لا يعرف الإجازات لارتفاع درجات الحرارة»، فَمَات ما يَقرُبُ من مئةٍ وخمسين مصرياً منذ بداية الموجة الحارة بمرضٍ أسموه «الإجهاد الحراري».