أغارُ من المصريين

أغارُ من المصريين

أغارُ من المصريين ومن مصرهم، أغارُ من ظروفهم التاريخية ومن جغرافيتهم، أغارُ من مكتسبات استقرارهم ومن تراكم إرثهم الحضاري، من سرِّ أجدادهم في سيرة النهر، كما أغار من «فلتتهم الجغرافية» وفق تعبير جمال حمدان. من مياههم التي بدون أمطار، ومن مزروعاتهم التي بدون نباتات، أغارُ حتى من تناقضاتهم، بل من مشكلاتهم أيضاً.


كسوريٍ يتألم كالملدوغ وينتحب كثكلى، يقبض على جمر الجغرافية في قلب العاصفة، ويفهم جيداً ما تعنيه «لعنة الجغرافية» السورية في مقابل «فلتة الجغرافية» المصرية. ليس ضرورياً هنا أن أنظر إلى التفاصيل، لن أغوصَ فيها وفي الأوبئة التي جلبها النيل مثلاً، بل أنظرُ إلى الخير الذي جلبه النهر وطوفانه. ولن أنظر في بعض الكوارث الطبيعية، وفي مشكلات المجتمع المصري ومشكلات حكوماته، وتدني مستويات التنمية والكثافة السكانية العالية واحتمالات انفجارها. لن أنظر إلى تدني فعالية التعليم وانتشار الأمية والفقر والتخلف، ولن أتحزَّب في غيرتي تلك لمخاضات الثورة المصرية والصراع الأليم على السلطة، كما أني لن أتطرق إلى قضايا الفساد أو أمراض بنية الحكم في مصر أو الأمراض الاجتماعية.


ما أنظر إليه هو السياق التاريخي العام الذي تمسرَحَت فيه أحداث مصر، والاستقرار العميق الذي أسَّسَ لحضارةٍ موغلةٍ في القدم. لابد أن تستيقظ هذه الحضارة من كبوتها يوماً ما لتعود كما كانت متزعمةً محيطها العربي والإفريقي، فتقدمَ للإنسانية كثيراً مما تملكه وتستطيعه.


ليس من الصعب أن أوضِّح أسباب غيرتي تلك كإنسانٍ ينتمي لجغرافية تتمسرَحُ على أرضها حالياً واحدةٌ من أعتى الحروب التي خاضتها البشرية، فيدفع سكانها ضريبة الموقع الجغرافي التي طالما دفعوها سابقاً، كسوري ينتمي لأرضه وشعبه وحضارته الموغلة في القدم يجد صعوبةً حتى في التعريف عن نفسه وعن هويته!


لقد أتاح موقع مصر لها استقراراً نسبياً قياساً بمحيطها، فظلت في مأمنٍ بعيداً عن الاضطرابات العاصفة والدائمة كتلك التي شهدتها بلاد الشام التي كان قدرها الدائم أن تستقبل أفواج الغزاة والمحتلين، وجميعَ أشكالِ «المارّون» وفق تعبير محمود درويش.


لقد توفرت لدى مصر ولدى المجتمع المصري رغم الصعاب الكثيرة القدرةُ على إكمال دورة الحياة، وتراكم الخبرات، فتبلورت عقليةٌ جمعية موحدة أفرزت هويةً وطنيةً صلبة قياساً ببلدٍ مدمر حالياً اسمه سوريا، أو قياساً بجغرافية مشتتة تشهد أعتى موجات العنف في التاريخ، تشظَّت مراراً إلى طوائف وملل ونحلل ومذاهب وقوميات وأعراق.


هذا البلد الذي طالما دُمِّرت مدنه وحواضره وقراه، وطالما هُجِّر سكانه واقتُلع عنصره البشري من أرضه، ودخل في دوامات عنفٍ لم يكن له يدٌ فيها سوى أنه في بؤرةٍ تعدُّ مسرحاً للحرب البشرية، فحصد من تبقى من السكان نتائج تلك الحروب عوضاً عن حصدهم لما ابتدعته حضارتهم التي لم يُكتب لها أن تُكمل مسيرتها فتعطي للبشرية ثمار خبرتها.


لو أحصينا عدد الحروب وحوادث العنف والكوارث الطبيعية وانتشار الأوبئة في كلٍ من بلاد الشام ومصر، لرأينا أن بلاد الشام دفعت الفاتورة الأكبر بما لا يقارن مع أي منطقةٍ أخرى نتيجة موقعها وظروفها المختلفة، سواءً على المستوى الجيوسياسي أو الجغرافي البحت أو تركيبة المجموعات البشرية فيها.


أغار من مصر لأن هذا الاستقرار النسبي الذي عاشته عبر تاريخها أثمرَ عن حضارةٍ فريدةٍ من نوعها في الماضي، وعن كفاءاتٍ علمية وأكاديمية وفنية ودينية وفكرية في الحاضر. وأعتقد أن أي كبوةٍ يمكن أن تشهدها مصر لن توصل المصريين إلى ما وصلنا نحن إليه، وسوف تبقى مصر بمأمن من خط الزلازل والبراكين، وسوف يظل المصريون يغرفون من ماضيهم ومن حاضرهم لبناء مستقبلهم، أما نحن السوريين فليسَ لنا سوى المارّينَ والعابرينَ وأبناءِ الحرب.

الوسوم

التعليقات

تابعنا على   +