طلقات تغتال القافية

طلقات تغتال القافية

كان أبو فراس الحمداني في طريق عودته إلى البيت عصراً، كان يوماً حافلاً بالعمل الشاق، ولم يكن قد شفي من صدمة موت جاره العزيز منذ عدة أيام حين استقر برميل فوق سطح بيته، ذلك الجار الذي قاسمه مرارة هذه الأيام، بعد أن رفضا سوياً مغادرة حلب.


كانا يلعبان الدامة ليلاً على ضوء الشموع، بينما يقصُّ أبو فراس على الرجل مُعاناته في سجنه الحقير عندما كان أسيراً لدى الروم منذ مئات السنين. ولم يكن صوت القصف العنيف أو المعارك الطاحنة التي تجري خارج غرفته، لتثني الجارين عن السهر وتبادل وجهاتِ النظر حولَ ما يجري من وقائع أليمة تعصفُ بسوريا أرضاً وشعباً، حتى أن أبا فراس أكَّدَ لجاره أن المرحلة لا تختلف بتاتاً عن سابقتها، فقد كانت الصراعات الداخلية في بلاط ابن عمه سبباً كافياً لجرأة الروم المتزايدة، ولم يكن سقوطه عن الحصان في مغارة الكحل، وسوقه للأسر ليوهن عزيمته، لكن ما أثَّر به هو إهمال ابن عمه سيف الدولة له ثلاث سنوات قبل أن يُفاوض عليه ثم يحرِّره. يتذكر الرجل تلك السهرات بينما يقفل راجعاً بعد أن أمَّن بشق الأنفس ربطة خبزٍ من أحد الأفران التي لم تقصف حتى الآن، ولم يمت كل من كان واقفاً أمامها كما جرت العادة. وبينما كان يمشي بحذرٍ، تنسابُ أغنيةٌ لأم كلثوم فيطرب لسماعها:


أراك عصيّ الدمع شيمتك الصبر .. أما للهوى نهيٌ عليك ولا أمر؟


بلى أنا مشتاقٌ وعنـديَ لوعةٌ .. ولكنّ مثلي لا يُذاع له سـرُّ


«يا لها من كلمات جميلة» يخاطب نفسه، يبدو أن الشاعر «أحمد رامي» قد أبدع في هذه الأغنية، ثم يغيِّر رأيه بينما يلوك رغيف الخبز البائت، لا لا، هذه كلمات «عبد الوهاب محمد» أو «أحمد شفيق كامل». يواصل مسيرته بينما يشاهد تلك الشوارع مدمرةَ البيوت، والحدائقَ محترقة الأشجار، يتذكر مواكب ابن عمه علي بن أبي الهيجاء، سيف الدولة، يستذكر غيرته من المتنبي شاعر عصره، فيزمُّ شفتيه ثم يشيح بنظره نحو عمود كهرباء مرميٍ على الأرض: «حتى لو كانت أم كلثوم معنا حينها لغنت للمتنبي، ولما غنت لي شيئا من أشعاري».


كانت القلعة قد بدأت بالظهور في الأفق حين توقف أبو فراس، وتخاطرَ في ذهنه فتحُ البوابات للمواكب، وكيف مرت مئات السنين بكل تلك السرعة. تذكر أشياء كثيرةً عن صباه، تذكر أول عشيقاته الفاتنات، وقادته الذاكرة إلى وقتٍ استقبلت فيه حلب شخصاً يدعى جمال عبد الناصر استقبالاً تاريخياً في ٢٤ مارس ١٩٥٨، وتذكر كيف أنه تعذَّب جداً في حفظ ذلك التقويم الغريب، وكيف انزوى يومها في فيء شجرةٍ ضخمة وأنشدَ حزيناً:


أبنيتي لا تحزني .. كلُّ الأنام إلى ذهاب


أبنيتي صبراً جميـ .. ﻼً للجليل من المصاب


نوحي علي بحسرةٍ .. من خلف سترك والحجاب


قولي إذا ناديتني .. وعييتِ عن ردِّ الجواب


زين الشبابِ أبو فرا .. سٍ لم يُمتَّع بالشباب


هكذا غَرِق في أفكاره، إلى درجةٍ منعته من سماع صرخات التحذير التي أطلقها مقاتلون يحملون البنادق: انتبه، لا تعبر الشارع، هنالك قناص، يا أصمّ، يبدو أنه لا يفهم العربية، ربما يكون أفغانياً أو باكستانياً، عباءته وعمامته لا توحيان بأنه من هنا.


يَعتقِدُ كثيرون أن قبر أبي فراسٍ الحمداني في مدينة حمص المدمَّرة، غير أن كثيرين آخرين ممن قرأوا شعرَ الشاعر الحلبي العظيم، يؤكدون أن روحه تتجول في شوارع حلب، وأن ربطةَ خبزٍ مغمسة بالدماء، ومثقوبة برصاصة قناص، هي قافية القصيدة الأخيرة للشاعر المظلوم.

الوسوم

التعليقات

تابعنا على   +